(1)
"إن التغييرات التي تحدث في حياة الشعوب عادة ما يجمعها نسق واحد له إرادته الموجِهة الدافعة الملهمة، ومنطلقاته الفكرية الثابتة التي تقوم عليها مؤسسات ونظم تتولى حمايته -النسق- والتمكين له، وتمثله نخبة برموزها تدعو له وتبشر به، وله تطبيقات عملية وتجليات تبدو واضحة التأثير علي التجمع البشري في مختلف نواحيه "الاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية، والدينية...."، وتتبناه شرائح مختلفة بل وقد تكون متباينة في بعض مظاهرها لكنها تتفق في كليات هذا النسق تسعي لصبغ باقي المجتمع به مما يود له خصومه الذين يؤثرون بعمق في موقفه كنسق من قضايا مختلفة تتحول بالخطأ إلى مركز الصراع رغم أنها مكون من مكونات عديده للنسق كالدين أو الثورة أو الطبقات، وحينها يُصبح هذا النسق نموذج حياة بغض النظر عن موقف البعض منه.
وعند سيادة نسق ما فإن عملية مقاومته تتطلب نسقا أخر مضادا مختلفا في ركائزه ومظاهره جميعا وليس مجرد رفض للإجراءات العملية أو القرارات السياسية، فتحدث عملية التدافع بين نسقين أو أكثر أحدهما على الأقل يرتكز إلى هوية المجتمع وجذوره وآخر مغاير لكنه يعتمد ثلاث وسائل لتثبت تصوره وهي: استخدام الآلة الدعائية بشكل مركز جدا لنشر القيم والأفكار وإضعاف المقاومة النفسية للسلوكيات والإجراءات، وتنشيط آلة الثقافة والفن والفكر لتحقيق نفس الغاية وإعادة تدوير هذا النسق كي لا يبدو على حقيقته المغايرة والصادمة لنسق المجتمع التاريخي وإنتاج نماذج فكرية وفنية (دراما، رسم، غناء،....) تؤكد إمكانية سيادته بل وتفوقه والاعتماد على مدخلات عاطفية تستغل حالة الهياج الجماهيري أو وقوعهم تحت التخدير الدعائي، واستخدام مكثف لآلة البطش والترهيب لمواجهة كل الشرائح أو الأنوية التي تتبنى أنساقا مضادة أو تحاول الحفاظ على النسق التاريخي للمجتمع وبالتالي تتم المقاومة في ظل ميل ميزان القوي لأحد النسقين، مما يتطلب جهدا وتضحية مبذولين من النسق الأخر ليصمد في عملية التدافع حتى يتحول إلى خيار شعبي أو حتى ينتبه الشعب أنه خياره الأصلي الذي عليه أن يتبناه.
والتعرف على هذه الأنساق المختلفة وتشريحها يكون بدراسة متأنية لهذه النماذج الحياتية التي مثلتها، ودراسة خصومها على مستوى الأفكار السائدة، والرموز الممثلة، والمؤسسات الحاكمة، والتجليات الظاهرة، والشرائح المؤيدة، لرسم خريطته التفصيلية ووضع حدودها الخارجية وفصلها عما سواها وتمحيصها من غيرها والتفريق بوضوح بين السلوكيات التي هي حقيقته وبين ما هو قنابل دخانية تكتيكية للتعمية في معركة من المعارك.
ويعتبر المجتمع المصري بمختلف طوائفه نموذجا حياتيا واضحا يمكننا أن نرى فيه عملية تدافع دائمة بين نسقين، أحدهما نسق المجتمع التاريخي الذي ظل سائدا منذ دخول الإسلام وحتي حكم محمد علي، ونسق مضاد تغريبي فردي بدأ يسود بداية من الحلمة الفرنسية التي أرادت فرض هذا التغريب انتقالا إلى حكم محمد علي، وتعمق أكثر بالاحتلال الإنجليزي ثم دخلت عليه تعديلات غير جوهرية بعد انهيار النظام الملكي بثورة يوليو وحتى اليوم. ومن الملاحظ أن تمكين هذا النسق الاستبدادي في تجليه السياسي، التغريبي في مضمونه الفكري والثقافي لم يتم فرضه بغير استخدام القوة والدعاية والفن.
ولأن شكلا ما من الدين كان مترسخا بعمق في نسق المجتمع التاريخي كمكون أساسي ورئيسي، فإن مسيرة النسق المضاد شهدت حربا قاسية ومواجهة حادة مع هذا الشكل من التدين طالما ظل يشكل خصما وخطرا وجوديا مع وجود فترات مصالحة تنازلت فيها الأنوية الحاملة لمشروع النسق التاريخي عن فكرة المواجهة، بحيث تراجعت عن كونها الخطر الوجودي الأول لتدور في فلك النسق المعادي لها ليتخذ منها رأس حربة مواجهة لخطره الوجودي الجديد كما شاهدنا في مصالحة التيار الإسلامي والسادات في فترة من حكمه حيث استخدم التيار الاسلامي فيما بعد لضرب الخصم القوي (التيار الاشتراكي والناصريين).
وعودة هذا النسق التاريخي لحضوره المجتمعي وانتصاره في عملية التدافع هذه مرهونة بعدة أشياء؛ أولها إدراكه الكلي لطبيعة النسق الأخر وجوهر تكوينه وعمومياته الفكرية مع اعتماد أسلوب المواجهة الشاملة للنسق كنسق دون الاستغراق في التفاصيل التي تكون تستهلك القوي ولا تشكل خطرا عميقاً، وثانيها أن يتم إعادة صياغة هذا النسق التاريخي ليتحول من مجرد تصور نظري له تطبيق تاريخي إلى نسق يمكن أن يتحول إلى نموذج حياتي، فعندما يصبح المعبرون عن هذا النسق قادرين على طرح تصور للدولة والفرد والعلاقات المتبادلة والأقليات ونظم التعليم والاقتصاد وغيرها، حينها قد يقتربون من فرض نسقهم أو إعادة المجتمع إليه بعد اغتراب. ثالثهما رفظ النسق المضاد كليا وإعلان الحرب عليه ورفض أي محاولة للتصالح معه أو الاندماج فيه، وإلا فإن النسق السائد تكون لديه قوة جبارة ومدار جذب هائل يكون من الصعب الإفلات منه.
وسنحاول التعرض لهذا النسق المضاد السائد بتبايناته لندرس وضعه العام، ثم التعرض للنسق التاريخي المقاوم لأن طبيعته تحدد موقف النسق السائد من قضايا كثيرة شائكة كوضع الدين ومحاولة توظيفه سواء بشكل متصالح أو معادي، ولأن التوصيف الصحيح للمعركة ولطبيعة النسق الذي نواجهه ومكوناته يجعلنا قادرين بدقة على التفرقة بين ما هو جوهري وما هو ثانوي وبين ما هو حقيقي وما هو دخاني، وبالتالي نستطيع بنفس الدقة تصويب الجهود وتركيزها نحو النقاط الجوهرية الحقيقية، مما يحقق النتائج المرجوة في الزمن المطلوب للفوز بالمعركة بأقل الخسائر ويجعل عملية إعادة ترتيب الصفوف وتكوين التحالفات ممكنة في ظل فهم واضح لطبيعة الشرائح المجتمعية المختلفة وعمق تداخلاتها مع النسق الحاكم.
النسق التاريخي: كان عالم أفكاره يرتكز على الدين كحاكم للحياة والمجتمع ولم تكن له نخبة بالمعنى الحديث المعروف لأنه نسق مجتمعي أصيل تكون بتكوين المجتمع، إلا أن شرائح محددة كعلماء الدين والأعيان والمشايخ كانوا نخبة الدفاع عنه والتحديث الدائم له، وكانت مؤسسات عديدة تقوم على حمايته (كـالقضاء الشرعي، جهاز الشرطة، والحسبة،...) وكانت له الممارسات الحياتية والتجليات الواضحة في شؤون المجتمع كالتعليم حيث توجد أكبر جامعات لتدريس العلوم الشرعية كالجامع الأزهر، والاجتماعية حيث كانت منظومة الإسلام القيمية هي التي تسود المجتمع وتنظم علاقاته كالميراث والزواج والطلاق والعلاقة بالأقليات، والاقتصادية حيث لم يكن يتم التعامل بما يخالف نظام الإسلام في الاقتصاد كالربا. وكانت الأنساق المضادة غالبا ما تأتي من خارج المجتمع وتنكسر على أبوابه دون أي تأثير فيه.
النسق المضاد: بدأ كما أسلفنا منذ محاولة فرضه بالحملة الفرنسية امتدادا للبعثات التغريبية لمحمد علي باشا وعودة الدارسين في جامعات أوروبا بأفكار وأنساق مضادة لنسق المجتمع وحتى يومنا هذا، ودائما ما كانت الإرادة الدافعة للنسق إما إرادة فرد مستبد (محمد علي وأولاده، جمال عبد الناصر، السادات، مبارك، السيسي) وإما الاحتلال الخارجي (الاحتلال الفرنسي، الاحتلال البريطاني) بقوته الغاشمة، ثم تتبناه أجهزة الدولة بسلطانها وأدواتها ونخبها والأقليات ذات المنافع الواضحة والخصومة البينة مع النسق التاريخي، لتبدأ عملية فرضه بالقوة وبالتالي كان هذا النسق دائما في حقيقة تكوينه (استبدادي تغريبي) تتداخل فيه دوائر الخارج الراغب في فرض التغريب مع الداخل الراغب في الإستبداد بالسلطة، لتنشأ عملية تكامل استمرت وبصور مختلفة حتى يومنا هذا. ولذا فإن معركتنا في الداخل هي ضد نسق الاستبداد، ومع الخارج ضد نسق التغريب الذي يضمن التبعية التي لا تحدث إلا بالانفصام عن النسق التاريخي الذي كان يقع الدين كمنهج حياة في مركزه الرئيسي.
وكي نصل إلى تشريح أدق عن هذا النسق "التغريبي الإستبدادي" المضاد في طوره الأخير، لابد أن نلقي نظرة أقرب عن السلسلة الأخيرة منه عقب ثورة يوليو والتعديلات التي حدثت، مما يحتاج أن نُفرد له مقالا أخر.
غير أن النتيجة التي أردت أن نصل إليها أن الصراع لابد أن يتجاوز التطبيقات والإجراءات العملية إلى النسق بكامله ومحاولة نسفه وإحلال النسق التاريخي بعد إجراءات تحديثية تجعله أمناسبا أكثر للشعوب المعاصرة. وإذا كان السيسي هو امتداد لنسق تغريبي استبدادي يحاول ترسيخه أكثر، فإن المقاومة لابد أن تتم عبر مواجهة هذا النسق بمقابله التاريخي في معركة ضد التغريب والاستبداد وليس ضد أي أنساق أخرى حتى لو بدا من بعض الإجراءات أنها لازمة كالدين.