يجادل سكوت هيبارد في كتاب «السياسة
الدينية والدول
العلمانية: مصر والهند والولايات المتحدة الأميركية» في أن الانبعاث الديني الأصولي الذي اجتاح العالم منذ السبعينات إنما هو نتاج سياسات واعية أدارتها نخب سياسية «علمانية» بهدف توظيف الدين والجماعات الدينية الأصولية لأجل مكاسب سياسية، أو بناء هويات وطنية وقومية وطائفية تنشئ تماسكاً اجتماعياً وراء نخب سياسية علمانية.
ويعرض ثلاثة أمثلة لهذا التوظيف السياسي النخبوي من الولايات المتحدة ومصر والهند.
لو كان صحيحاً أن الفقر والتهميش
الاقتصادي والاجتماعي هو سبب صعود الجماعات الأصولية فلماذا يصوّت الفقراء في الولايات المتحدة لمرشحي الحزب الجمهوري المحافظين الذين يديرون سياسات ومصالح رأسمالية تضرّ بالفقراء، ولا ينتخبون الديموقراطيين المنحازين للرعاية الاجتماعية والصحية للفقراء ولسياسات ضريبية تصاعدية تنصف الفقراء والطبقات الوسطى؟ ولماذا ينتخب فقراء الهندوس والمنبوذون طبقياً حزب بهارتيا جاناتا القومي الهندوسي الطبقي ولا ينتخبون حزب المؤتمر المؤمن بالمساواة؟ ولماذا صعدت الجماعات الدينية ردّاً على الفقر ولم تصعد بدلاً منها الجماعات اليسارية والاشتراكية المنحازة تاريخياً للفقراء والمعادية للرأسمالية؟
الخرافة الثانية في تفسير الأصولية الدينية والجدل معها هي تقديمها نقيضاً للحداثة. فقد أظهرت الجماعات الدينية الأصولية رغم تطرفها وتعصبها استيعاباً متقدماً للحداثة التكنولوجية والأفكار والنظريات السياسية والاجتماعية الحديثة ورؤية فكرية وتنظيرية وفقهية مستمدة من التراث الديني التقليدي المعتمد لدى الفئة الغالبة من أتباع الدين والمؤسسات الدينية الرسمية نفسها، وأعاد إنتاج وتطوير الأفكار والاتجاهات اليمينية والقومية والاتجاهات السياسية الداعمة في هيئة فكر ديني أكثر تماسكاً ومنطقية من القوميات والوطنيات العلمانية، وساعدها في ذلك، ويا للسخرية، نخب سياسية علمانية ومؤسسات بحثية وأكاديمية وشركات للعلاقات العامة والإعلام، ثم استطاع الأصوليون بأنفسهم أن ينشئوا مؤسسات إعلامية وبحثية أو مكن لهم في مؤسسات كبرى وأن يحصلوا على خبرات إعلامية وتنظيمية وتقنية متقدمة، وأظهروا قدرات تنظيمية هائلة في حشد المؤيدين والأتباع وتنظيم العمل السياسي والجماهيري، ولم يكن في واقع الحال ساذجاً سوى خصومهم والذين أثبتوا أنهم يغلب عليهم الوهم والكسل وأن وجود معظمهم في المؤسسات الإعلامية والأكاديمية لم يعد يفيد في شيء سوى الردح والشتم المثير للسخرية والشفقة، وكانت غالبيتهم غير قادرة على فعل شيء سوى استهلاك الموارد.
وفي الحالة المصرية بخاصة أثبت الخطاب الإعلامي الرسمي أنه في حالة غيبوبة ولم يدرك بعد ما الذي حدث في عالم الشبكات والأفكار والموارد والتكنولوجيا منذ الخمسينات، بل تظن أن النخب الإعلامية والأكاديمية والثقافية المتسيّدة للمشهد الإعلامي لم تكتشف بعد أن جمال عبد الناصر قد مات!
يقول سكوت هيبارد إن حزب المؤتمر الهندي بعد عقود من السياسات العلمانية استخدم الدين لدعم سياسات طائفية، وعلى سبيل المثال لم تكن احداث العنف المناهضة للسيخ والتي أعقبت حادث اغتيال رئيسة الوزراء أنديرا غاندي (1984) اندفاعاً تلقائياً نتيجة لمشاعر الحزن والأسى، ولكنها رد فعل منظم من قبل زعماء حزب المؤتمر لتذكير السيخ بوضعهم الثانوي داخل المجتمع الهندي... واستخدمت أيضاً عوامل الخوف من الإرهاب والانفصاليين لدعم استراتيجية الحزب، الأمر الذي يذكّر أيضاً بسياسات حزب ليكود في إسرائيل وكيف وظّف مشاعر الخوف لدى الإسرائيليين.
والخرافة الثالثة التي جرى ترويجها تقديم الصراع مع الأصوليات الدينية بأنه صراع قيم وأفكار، أو أنه صراع بين الحداثة والرجعية، أو بين التعصب والتسامح، ولكن ذلك لا يفسّر التشابه إلى درجة التطابق في الأفكار والسلوك بين الأصوليات الدينية المتصارعة، إذ يكاد يكون المتدينون اليهود «حريديم» والأصوليون المسلمون والتجديديون الأنغليكان والبروتستانت جماعة واحدة، ولا يفسّر الصراع الدامي بين الأصوليات المتطابقة داخل الدين الواحد كما يجري اليوم في الشرق العربي، كما لا يفسر أن المؤسسات الدينية الرسمية لا تختلف ايضاً في فتاواها ورؤيتها عن الجماعات المتطرفة التي تحاربها وترفضها.
ما يجري ليس صراعاً حول الدين وإنما صراع على الدين، وكأن من يملك الدين يملك الشرعية السياسية أيضاً والأحقية بالحكم والتأثير. وكانت النخب السياسية «العلمانية» من أطلق هذا السلاح ضد الخصوم وليس الجماعات الأصولية، ولا مخرج من الأزمة سوى تحرير الدين والصراع من بعضهما بعضاً.
(نقلا عن صحيفة الحياة اللندنية)