أكثر اسم دولة يتم تداولها في الإعلام العربي حاليا، وفي ساحات التواصل الاجتماعي هي بلا شك
إيران.
وفي الوقت الذي يتركز فيه الحديث عن الخطر الإيراني الذي صار واقعا وليس محتملا، وتمدد الدولة الايرانية في المحيط العربي، والاحتقان الطائفي الذي صارت إيران تصنعه أو تستغله، أعتقد أن دور جمهور الباحثين والمعنيين بالشأن العام دراسة هذه الظاهرة، وتحليل العوامل التي أدت لنموها، والوصول إلى الدرجة التي وصلت إليها.
لكن ربما يكون أكثر ما يعنينا في دراسة الظاهرة، هو كيفية تحول الدولة الإيرانية من دولة ملكية تخضع لعائلة مالكة عملت على نهب البلد، وتسخير الأمة الإيرانية من أجل تحقيق مجد شخصي للشاه، وبناء نظام حداثي بالمفهوم الغربي، ولو على خلاف الموروث الحضاري والديني للأمة الإيرانية إلى جمهورية إسلامية ثورية معنية بتصدير ثورتها إلى محيطها الإسلامي.
والعمل على تقديم نموذج جديد للحكم يعتمد على ولاية الفقيه، ويتزعم الجماهير الشيعية في الدول المجاورة، والوصول أخيرا إلى حالة من شبه الهيمنة في الشرق الأوسط رغم الصراع والضغوط الغربية، التي امتدت إلى قرابة الثلاثين عاما.
ومع وضع الحالة المصرية الراهنة في الخلفية الذهنية، فإن دراسة الثورة الإيرانية والاستفادة منها فيدعم الحراك المعارض المصري الحالي تجاه
الشاه الحالي في مصر لهو ضرورة ملحة، ومع التفكر في الحالة المصرية الراهنة، فإن هناك بعض الدروس المستفادة التي من الممكن الاستفادة منها في الحالة المصرية.
1- دور الزعيم: لا يمكن ذكر الثورة الإيرانية دون الإشارة إلى دور زعيمها آية لله الخميني، الذي تمكن رغم وجوده في المنفى، بعيدا عن الوطن من تحدي سلطة الشاه والإطاحة به، وتأسيس النظام الحالي الذى مازال مستمرا حتى الآن.
والتركيز هنا لا يجب أن يكون على شخص الخميني ولا على الصفات القيادية لديه، ولكن على دور الزعامة الشخصية في تحريك الأمور، وتأليب الجماهير وتوجيهها نحو هدف معين.
بل ربما يعجب البعض أن شرارة الثورة الإيرانية في 1977 ارتبطت بشخص الخميني عقب اغتيال ابنه مصطفى الذي كان مرجع ديني بدوره .
وقد كانت الرسائل الصوتية التي يرسلها الخميني من الخارج بمنزلة الوقود الذي أبقى جذوة الثورة مشتعلة، والدفة التي تقود الحراك وتبقيه متماسكا وصلبا رغم الضربات العنيفة للشاه على مدار ما يقرب من عامين.
وجود شخصية كارزمية مثل الخميني أيضا ساعد على رص الصفوف وجمع مختلف التيارات الفكرية والعقائدية المتنوعة موجهة ضد الشاه تحت قيادته وتوجيهه.
والأهم من هذا كله أن وجود الخميني بتصوره الفلسفي لنظام الحكم والإدارة حسم شكل مرحلة ما بعد الثورة، وسقوط الشاه وبلورتها في شكل الجمهورية الإيرانية ومرجعية الفقيه (بغض النظر عن اتفاقنا أو اختلافنا مع هذا الطرح).
غياب الزعامة في الحالة المصرية كان عاملا رئيسيا في الخلاف الحاد بين مكونات الثورة، التي أنتجت الفراغ الذي استغلته الثورة المضادة، وللأسف ما زال هذا الفراغ موجودا رغم الحراك الدائر على مدار ما يقرب من عامين من وقوع الانقلاب في بلد ارتبط تاريخه بشخص الفرعون، والارتباط الأبوي بشخص الحاكم مهما كانت درجة فساده، وهو ما تنبهت له الثورة المضادة بتنصيب زعيما فردا لها حتى لو لم يمتلك أي كاريزما أو حتى أقل المقومات القيادية.
وجود
زعامة فردية ذات صفات قيادية وكاريزما جماهيرية كفيل بتغيير دفة الصراع وطرح تحدي مباشر لقلب نظام الحكم الجديد في مصر، وحتى لا يظن البعض أن الزعامة الفردية ستكون منزهة لا تخطئ فإن الخميني رغم هالة القداسة حوله، كان له بعض القرارات المثيرة للجدل التي اتسمت أحيانا بالتردد أمام وحشية نظام الشاه.
بل إن اللحظات الحاسمة في تاريخ الثورة مثل المواجهة المسلحة مع الجيش آخر يومين، تمت رغما عن الخميني، وهو ما حدث أيضا في حادث احتجاز رهائن السفارة الأمريكية، التي لم تتم بأمره إن لم يعارضها.
2- هوية الثورة والقيادة من الأمام:
كما أوضحت الفقرة الماضية، فإن قيادة الثورة كانت دينية بالأساس متمثلة في مرجعية دينية شيعية على رأسها آية الله الخميني، الذى رفض من البدايات الأولى للثورة، وحتى قبل وصولها إلى ذروة الحشد، أي إصلاحات على النظام وأصر على الإطاحة بالشاه وإقامة جمهورية إسلامية.
هذا الطرح والإصرار عليه تم في وجود قطاعات ليبرالية، وأخري يسارية في الحراك المعارض للشاه، وانعكس على الآليات والمناسبات التي اشتعلت فيها أحداث الثورة مثل الأربعينيات، والأعياد وشهر رمضان.
التيار الديني مثل الحيز الأكبر من الحراك الثوري، وقدم أكبر عدد من الشهداء في المواجهات ولم يترك هوية الثورة مبهمة، رغم مشاركة قطاعات متنوعة من الشعب فيها بل استغل هذه الهوية في الحشد ودعم الثبات والاستمرارية، رغم لحظات الفتور والهبوط التي تخللت العامين.
إن التركيز على الهوية الإسلامية للحراك المعارض للانقلاب، لا يجب إغفاله أو تنحيته مراعاة لاعتبارات قومية أو حرصا على تراص الصفوف الوطنية التي تتبخر مع اشتداد وتيرة المواجهات مع النظام، بل يجب التركيز عليها كعامل جذب وحشد ودعم للثبات والصمود.
وهذا التركيز يجب عليه تجاوز حساسيات بعض الشخصيات أو التنظيمات المفرطة في علمانيتها، والنظر إلى التيار المصري العام، الذي وإن لم يكن منتظما في تيار إسلامي بعينه، أو مرتبطا بالإسلام السياسي، لكنه لا يجد غضاضة في التعاون مع الإسلاميين، والعمل معهم بل وتأييدهم إذا ما نجحوا في إقناعه وتقديم بديل مقنع له (وهو ما ظهر في خمسة استحقاقات انتخابية متتالية).
إن ما يحتاجه هذا التيار الشعبي العام، هو القيادة المقنعة له، التي تجيد التواصل معه ومصارحته بالحقائق والغايات، وتتقدمه وقت المغرم، وترجع وراءه وقت الغنيمة.
إن التخفي وراء يافطات جمعيات وطنية أو ائتلافات ثورية، لم يعد مقنعا أو محفزا أو حتى خادعا لمن يتابعون الحراك اليومي.
وليست هذه دعوة إلى التفرق أو تشتييت الجمع، ولكن دعوة لإعادة التنظيم وترتيب الهيكل، وأن يقوم العاملون على الأرض الآن بالقيادة من الأمام، وليس من الخلف كما فعل الخميني، وطلبة الحوزات العلمية.
3- ديمومية الحراك وتنويعه:
الثورة الإيرانية لم تكن وليدة لحظة أو هبة شعبية سريعة على مدار عدة أيام كما حدث في مصر، لكنها امتدت فترة قاربت العامين، ورغم هذه المدة فإن لحظات النشاط فيها كانت معدودة ومرتبطة بمناسبات معينة، تخللتها فترات من السكون والهدوء.
ولكن مع بقاء جذوة الثورة مشتعلة وإصرار الطلبة والثوار الإيرانيين على مطالبهم، وغلبة الجناح الثوري على الأجنحة الأخرى وسط المرجعيات الشيعية وخلق وسائل جديدة للمواجهة، واستغلال التكنولوجيا المتاحة وقتها (مثل استعمال شرائط الكاسيت التي أوصلت صوت الخميني إلى عموم الناس)، فإن الحراك الثوري هناك نجح في الوصول إلى نقطة الذروة التي أعقبها انكسار النظام.
إن تشارلز كروزمان صاحب كتاب "الثورة غير المتوقعة" يقول إن وجود النشطاء الإيرانيين الذين بلغوا بضع مئات في بلد تعداده ثلاثين مليون نسمة، نجح في الإبقاء على الحراك الثوري مشتعلا، حتى توافرت له الظروف المناسبة للإطاحة بالشاه.
ومع النظر في الحالة المصرية الراهنة، فإن ديمومة الحراك المعارض للانقلاب حتى ولو قلت الأعداد أو ضعفت الفاعليات مقارنة بأوائل الانقلاب، لهو ضرورة حتمية للإبقاء على جذوة الثورة حتى تتوافر لها الظروف الأخرى للاشتعال، وتبقي الخصم تحت وطأة ضغط مستمر.
وتبقي
شرعية النظام القائم على المحك ومحل تساؤل وتشكيك مستمر، وتبقي الأبواب مفتوحة لجميع الاحتمالات المتوقع منها وغير المتوقع.
لكن كما أسلفنا لا يجب الاقتصار على فاعليات بعينها حفظها النظام وألفها واكتسب مناعة ضدها، ولكن طرق أبواب جديدة حتى ولو لم تكن هناك استجابة فورية لها.
قد تختلف الظروف والبيئة في مصر عن مثيلتها في إيران ((لا ننسى أننا في مصر في مرحلة ما بعد الثورة وليست الثورة نفسها)، وقد نختلف أيديولوجيا وأخلاقيا مع النظام الإيراني الحالي، وربما يجنح البعض، ويقول إن الثورة الإيرانية تمخضت عن كائن مشوه نعاني منه ويعاني قطاعات كبيرة من الشعب الإيراني منه إلى اليوم، لكن هذا لا يمنع أن الثورة الإيرانية مليئة بالدروس والعبر، التي يمكن الاستفادة منها، واستخلاص دروس تنفع الحالة المصرية الراهنة على اختلاف الظروف والأحوال.