يتردد منذ بداية الأزمة السورية عام 2011م الحديث عن ضرورة حل سياسي لما يجري في
سوريا، وتطورت الدعوة لاحقا عقب تغول
النظام وقمعه العسكري لثورة شعبية لتصبح أن لا حل عسكريا في سوريا، وأنّ الحل السياسي هو الحل الوحيد للأزمة.
وأصبحنا نكرر العبارة دون وعي بالمعطيات على الأرض، ودون تفكير بمآلات هذا الطرح، وهذا ما يؤسف له إذ إننا –العرب- لا نتعلم من تجاربنا، فما زالت التجربتان
اليمنية والمصرية ماثلتين أمامنا بنتائجهما الكارثية، فقد أدى الحل السياسي الأعرج في اليمن لتعاون الطاغية صالح مع ميليشيات مرتبطة بالخارج من أجل هدم ما تبقى من اليمن، وأدخل البلاد في صراع دموي جعل أبناء البلد يقتتلون، كل ذلك سببه تأمين خروج سياسي آمن للطاغية، ولم ندرك أنّ الطاغية الذي دمر البلاد واستنزف مقدراتها وثرواتها عقوداً وهو بالحكم أهون عليه تدميرها وهو خارجها، لأنّ الطغاة ينظرون للوطن مزرعة، وللمواطنين عبيد.
و نرى بالمقابل أول رئيس ينتخب بشكل ديمقراطي في تاريخ
مصر عقب ثورة شعبية خلف القضبان، ويلف حبل المشنقة حول رقبته، ليصدر قضاء دولة مبارك العميقة حكم إعدام للثورة المصرية، وليخرج من دمروا مصر أحراراً، ومرد ذلك الحل السياسي الذي أبقى على رموز مبارك، ودولته العميقة.
وفي سوريا يبدو الحل السياسي أكثر كارثية نتيجة طبيعة النظام الدموي الحاكم، وتجذر دولته الأمنية العميقة، فضلاً عن الفاتورة الباهظة التي دفعها السوريون على مدى أعوام، وقد كان ممكناً أنْ يُخْدع السوريون بداية الأزمة بالحل السياسي أما الآن وقد قُتل مئات الآلاف وشُرد الملايين فيبدو الطرح السياسي كارثياً وعبثياً في آن لأنَّ آلة الطاغية في القتل والتدمير ما زالت مستمرة بحلها الأمني العسكري، وترفض أي حلٍّ سواه.
كان ممكناً الحل السياسي عندما كان الطاغية ممسكاً بالدولة ويسيطر على المعابر والحدود إحدى رموز السيادة أما وقد تحول لزعيم ميليشيا لا يجرؤ الظهور إلا نادراً في ترتيبات أمنية معقدة فلا يمكن الحل السياسي معه.
كان ممكناً الحل السياسي عندما كان القرار السياسي السيادي بيد الأسد، لكن بعد وقوع الأسد أسيراً بيد إيران، وتسليمه ما تبقى تحت سيطرته من سورية لقمة سائغة للاحتلال الإيراني يجعل قبول الحل السياسي مع المحتل ضرباً من الخيانة.
يُفترض بالحل السياسي أن ينهي الأزمة ويكون دائماً وإلا كان هدنة مؤقتة تنذر بتدمير شامل، إذ لابُدّ للحل السياسي الدائم الارتكاز على قيمة العدالة، فلا حل سياسي دون تطبيق العدالة الانتقالية، ولا يختلف اثنان أنَّ الأسد غير مستعد لدفع فاتورة العدالة الانتقالية.
كما يكون الحل السياسي الواقعي الحقيقي بين القوى الفاعلة على الأرض لا القوى الجالسة في الفنادق، ومعلوم أنّ المقصود بالطرح السياسي الغربي تلك القوى الفندقية التي لا تملك بندقية واحدة على الأرض كما لا تملك رصيداً شعبياً.
يجعل الحل السياسي الغرب ومعه المجتمع الدولي -إن أحسنا الظن بهما- في طرحهم أمام احتمالين:
الاحتمال الأول ويتمثل بعدم إدراكهم للواقع السوري، إذ ينظرون للصراع الدائر على أنه حرب أهلية بين طرفين، ويتجاهلون أنها ثورة شعبية ضد نظام استبدادي نهب البلاد، وأذل العباد.
الاحتمال الثاني وهو المرجح والمتمثل بإدراك حقيقة الوضع السوري، بل وقراءة السيناريوهات المستقبلية للمنطقة، فالإدارة الأمريكية والغرب يريدون حلاً سياسياً لمستقبل سورية يبقىي النظام السوري دون الأسد، ولا بأس بتطعيم النظام الجديد بشخصيات معارضة موالية للغرب، وفي هذا الإطار يفهم المناقشات الأمريكية الروسية التي سربتها صحيفة التايمز البريطانية، وهذا مطلب أمريكي، فأمريكا تؤكد أن لا دور للأسد لكنها لم تشر يوماً للنظام والدولة الأمنية العميقة، فقد حقق هذا النظام عبر عقود أمناً استراتيجياً لإسرائيل.
إنّ إصرار أمريكا على حلى سياسي يزاوج بين النظام القديم وشخصيات موالية للغرب هدفه الحيلولة دون بناء دولة عربية ديمقراطية جوار إسرائيل لأنَّ ذلك سيشكل حقيقة تهديداً لأمنها، ولأمن كثير من الأنظمة العربية، كما ترغب أمريكا اللعب بورقة الحل السياسي مع إيران من أجل الملف النووي، ومع روسيا من أجل الملف الأوكراني.
وبالمحصلة فإنَّ الاستمرار بطرح الحل السياسي كخيار وحيد يبقى طرحاً غير واقعي، فالأسد أصبح أضعف اللاعبين فتنظيم الدولة يتقدم شرق حمص والثوار حرروا إدلب وجسر الشغور، ومعركة حلب على الأبواب، والمساحات التي يسيطر عليها الأسد تتآكل، فضلاً عن تراجع قدراته العسكرية، كما أنّ الإصرار على الحل السياسي دون سواه يقدم دعماً للقوى المتطرفة على الساحة السورية، ويقدم المبررات المنطقية لوجودها، فالغرب يريد بقاء الأسد.
وينبغي على الدول العربية ولا سيما الخليجية الوقوف ضد وصفة الحل السياسي الأمريكية التي طرحها أوباما في كامب ديفيد والتي تهدف لتخريب سورية، فحل الأزمة اليمنية وكسر شوكة إيران مفتاحه سوريا بنظام جديد يجتث كل بقايا ورموز دولة الأسد العميقة، وهذا ما سيحصل ويبشر به واقع
الثورة السورية، التي ستعد أنجح الثورات لأنها لن تسقط بمطب الحل السياسي الذي ترك صالح، ولن تسقط بمطب الدولة العميقة، وتخلي العرب عن سورية يؤخر نجاح الثورة، ويسهم بمزيد من الدمار لكنه لن يمنع بالنهاية نجاحها.