لم يكن العالم يوما مكانا عادلا، فقد امتلأ بالفقر وبحور الدم والحروب المدمرة والصراعات الدموية التي أودت بحياة مئات الملايين من البشر، ولكن حاولت البشرية على مر العصور الاقتراب من
العدالة، ربما فشلت في معظم محاولاتها إلا أن هناك دائما مجموعة من الرسل والمفكرين الذين حاولوا انتشال البشرية من جنون
الظلم إلى نور العدالة، حاولت باستخدام الكثير من الأفكار والوسائل، وكان الهدف الرئيسي في كل المحاولات التاريخية هو الاقتراب من المجتمع العادل.
والتطور التاريخي لبنية المجتمعات والسلطة عبر الأنظمة التي اختبرها العالم في عمره الطويل حقق بعض النجاح والكثير من الإخفاق، إلا أن ربما أكبر نجاح له هو فكرة المؤسسات، ومؤسسة العدالة هي أحد أهم إنجازات المجتمعات المتطورة؛ لأن العدل هو الأساس وربما القيمة الحاكمة كي تعيش أي حضارة، وأرى أن العدل هو القيمة الحاكمة في الحضارة الإسلامية تحديدا.
ويتبادر إلى الذهن عند ذكر كلمة مؤسسة أنها الشكل المعاصر لها، إلا أن ما أعنيه بكلمة مؤسسة هو وجود إطار فكري لمعايير العدالة ووجود إطار تنظيمي بصرف النظر عن شكله وطبيعته، وبالتالي لم يكن النموذج الحالي -وهو المقترن بتنظيم الدولة الحديثة- هو النموذج الوحيد لمؤسسة العدالة، بل كانت هناك أنظمة ونماذج أخرى موجودة، وخاصة نموذج مؤسسة العدالة في المجتمع الإسلامي.
خطورة النموذج الحالي -أعني به نموذج الدولة الحديثة- أنه يتحول مع الاستبداد إلى أداة للقتل تتحول القوانين إلى أدوات لقتل العدالة وتدميرها، لا جدال أن هناك أنظمة قضائية مستقرة وتثير الإعجاب داخل نماذج الدولة الحديثة، إلا أن حتى هذه الدول وهذه الأنظمة تتحول أنظمتها القضائية إلى أدوات قتل عندما تتواجد داخل أنظمة استبدادية أو حتى تتقاطع مصالحها مع الاستبداد في أي من النقاط المنتهكة الموجودة بالعالم.
إذًا ليست العدالة هي المرجوة من تلك الأنظمة والمؤسسات الحالية، وخاصة في النظم الاستبدادية، فعندما يختلط الاستبداد بهذا النموذج تتحول مؤسسات العدالة إلى إحدى أدوات صناعة الاستبداد، وتنتهي مهمتها التي صنعت من أجلها، ويصبح على المجتمع صاحب الحق الأصيل في السلطة أن يتجاوز تلك المؤسسة لتحقيق العدل، الذي أصبحت المؤسسة إحدى أدوات صناعة الظلم بل ومنع تحقيق العدالة.
إن احتكار طبقة معينة للسلطة يجعل إحساسها بامتلاك المؤسسة إحساسا متضخما يزيد مع الوقت، وقد تجاوزت مصر تلك المرحلة من زمن بعيد، وأصبحت المؤسسات ليست فقط ملكا لمجموعات المصالح وأذرع الطبقة الحاكمة، ولكن عبرت مصر لمرحلة أخرى، وهي ظهور علامات الدهشة على وجوه "مالكي المؤسسات" عندما يحاول أحد ما اختراق الحواجز الصلبة للعبور إلى حقه الأصيل في السلطة، وأصبح الموت جزاءه على ما اقترف من جرم.
نعود للعدالة الغائبة في مصر ،ليس فقط بعد الانقلاب العسكري، ولكنه منذ زمن طويل، ولكن ربما كانت رغبتنا المستمرة هي عدم رؤية الحقيقة الواضحة أملا في إصلاحها، فكانت تجعلنا نتكيف مع الواقع المؤلم الذي تعيشه مصر ويعيشه شعبها.
أما بعد مذابح منصات القضاء ومذابح الأسلحة الأوتوماتيكية وقذف الطائرات، فليس هناك ما يجعلنا نؤمن بعد بتلك المؤسسات وعلى رأسها مؤسسة ما يسمى بالقضاء.
وأصبح واجبا على الجميع أن يبحث عن العدل خارجها، بل وعليه عند البحث عن العدالة أن يدرك أن تلك المؤسسة أصبحت عائقا في سبيل الوصول إليها.
ما حدث بالأمس القريب مع شهداء قضية عرب شركس أعاد إلى الأذهان قضية أخرى قديمة وهي قضية دنشواي. فالجريمتان لم يثبت على المتهمين فعلها، بل وتيقن القضاة في الموقفين أن المتهمين أبرياء، ولكنهم أعدموهم في الحالتين، في الأولى كانوا قضاة مصريين تحت الاحتلال الإنجليزي، والثانية قضاة مصريون أيضا تحت احتلال الطبقة الحاكمة.
لم يتغير المشهد على مدى ما يقرب من مائة وعشر سنوات، وكأنه كتب على مصر أن يبقى شعبها هكذا منتهكا مظلوما يُشيِّع قتلاه الذين يقتلون بكلانشينكوف مثبت على منصات القضاء.
يبدو أن هذه عادة مصرية قديمة، فعندما أيقن القضاة ببراءة سيدنا يوسف عليه السلام قرروا سجنه حتى حين "ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ".
وفي مقولة عن الشيخ كشك رحمه الله قال: "تسعة أعشار الظلم في مصر، والعشر الأخير يطوف نهاره العالم، ويبيت ليله في مصر".
إن ضحايا دنشواي وضحايا عرب شركس هم أحفاد يوسف عليه السلام، وإن قضاة عرب شركس ودنشواي هم أحفاد قضاة يوسف وكأن شيئا لم يتغير في مصر. وأخشى أن يكون المصريين الآن هم أحفاد من قالوا "لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ".
العدالة هي المبتغى، وعند فشل مؤسسة العدالة في تحقيقه، فعلى الشعب وقواه الحية، وليس المتبعين للسحرة، أن يتجاوزوا كل شيء لتحقيق العدل والخروج بمصر من هذا النفق الممتد لآلاف السنين، وطرد الظلم الذي لا يجد مكانا آمنا إلا مصر ليبيت فيه.