إن من يريد النهوض والتقدم، مثله كمثل من يريد تجديد البناء، لابد له من البدء بتنظيف الساحة من المخلفات ومن المعوقات قبل أن يضع أساسات البناء الجديد، والصعود على هذه الأساسات.
وفي السياسة الشرعية يعبرون عن هذا المنهاج بـ "التخلية قبل التحلية" أي البدء بإخلاء الساحة من معوقات ومخلفات النظام القديم قبل تحلية المكان بالبناء الجديد.
وفي التطور الحضاري والتطور الفكري والاجتماعي - وفق هذا المهج - لابد من التخلص من "الجمود والتقليد" كمقدمة ضرورية للتطور والإبداع والتجديد، ذلك أن الجمود يعني السكون والتكلس الذي يكرس التخلف، كما أن
التقليد - سواء أكان لتجارب الماضي والسلف أم لتجارب الآخرين - يعطي العقل المبدع إجازة دائم، جاعلاً منه مكتباً لمجرد الإستيراد!، استيراد تجارب السلف، التي استنفدها التطور، أو تجارب الآخرين التي مثلت خصوصيات لمسيرة هؤلاء الآخرين.
إن الجمود والتقليد إنما يعطل ملكات التعقل والتجديد التي أنعم الله بها على الإنسان، والتي ميزته - كخليفة الله سبحانه وتعالى - عن سائر المخلوقات، وعندما يكون هذا الجمود والتقليد لتجارب الآخرين تجاوزها التطور، يكون سببا في حدوث "فراغ فكري" يملؤه الغزو الفكري والاستلاب الحضاري وتتمد فيه المذاهب الغريبة التي يشكو منها أهل الجمود والتقليد!.
لذلك، كان نقد ورفض الجمود والتقليد، هو أول الأصول الفكرية لمدرسة الإحياء والتجديد، التي تبلورت في بلادنا من حول جمال الدين الأفغاني (1245 – 1314 هـ ، 1838 – 1897م) والإمام محمد عبده (1266 – 1323 هـ ، 1849 – 1905م) في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
لقد انتقد الأفغاني الذين أرادوا تقليد التمدن الغربي وذلك لأن المقلدين لتمدن الأمم الأخرى ليسوا أرباب تلك العلوم التي ينقلونها، والتمدن الغربي هو في الحقيقة، تمدن للبلاد التي نشأ فيها نظام الطبيعة وسير الإجتماع الإنساني، ولقد علمتنا التجارب أن المقلدين من كل أمة المنتحلين أطوار غيرها، يكونون فيها منافذ لتطرق الأعداء إليها، وطلائع الجيوش الغالبين وأرباب الغارات يمهدون لهم السبيل ويفتحون لهم الأبواب، ثم يثبتون أقدامهم.
فتقليد فكرية الحضارة الغربية الغازية يخلق "عملاء" لا "علماء"!، ذلك أن تميز حضارتنا الإسلامية، المؤسس على تميز شريعتنا الإسلامية يباعد بين الحضارة الغربية المادية النفعية وبين أن تكون نموذجا في الإحياء والتجديد والنهوض، فمدنية هذه الحضارة الأوربية - كما يقول الإمام محمد عبده - "هي مدنية الملك والسلطان - (القوة) - مدنية الذهب والفضة، مدنية الفخفخة والبهرج، مدنية الخيل والنفاق، وحاكمها الأعلى هو "الجنيه عند قوم" و"الليرة عند قوم آخرين" ولا دخل للإنجيل في شيء من ذلك"!.
ويقترب من هذا التقليد لـ "الآخر الغربي" تقليد الأسلاف الإسلاميين - في التجارب والنظم والمؤسسات - والجمود على الموروث الحضاري، ذلك أن هذا اللون من التقليد وإن لم يدخل في "العمالة" للحضارات الغازية، فإنه يصنع "الفراغ الفكري" الذي يتمدد فيه فكر "الأعداء والعملاء"، ولذلك كانت سلفية الجمود على ظواهر النصوص، المتجاهلة لمقاصد هذه النصوص - كما يقول الإمام محمد عبده - "أضيق عطنا وأحرج صدرا من المقلدين، وهي وإن أنكرت كثيرا من البدع ونحّت عن الدين كثيرا مما أضيف إليه وليس منه، فإنها ترى وجوب الأخذ بما يفهم من لفظ الوارد، والتقيد به، دون التفات إلى ما تقتضيه الأصول التي قام عليها الدين، وإليها كانت الدعوة، ولأجلها منحت النبوة، فلم يكونوا للعلم أولياء، ولا للمدنية أحباء".
فالمقلدون لأدبيات الغرب - الفلسفية والإنسانية - لا يمكن أن يفيدوا أمتهم بثمرات هذه الأدبيات، لأنهم قد غفلوا عن ارتباط تلك الأدبيات بملابسات نشأتها وخصوصيات حضارتها، وتميزات مواريث مجتمعاتها، وكذلك الحال مع المقلدين لنصوص أسلافنا، الذين وقفوا عند ظواهر تلك النصوص، غافلين عن المقاصد والمصالح التي جاءت لتتغياها هذه النصوص.
إن أي تطور وتقدم ونهوض، لابد أن يحطم قيود الجمود وأغلال التقليد، ليفجر في الأمة طاقات الإبداع النابع من فقه الواقع، والمسترشد بالمناهج والثوابت والأصول، مع التفاعل مع "الآخرين" في ما هو مشترك إنساني عام.