بالنظر لاتجاهات
التفكير ومناهج التغيير عموما ولدى النخب الإسلامية والحركات والجماعات ذات البعد الديني والعقدي خصوصا، فإن من الممكن تقسيم هذه الحركات والجماعات على الجملة والعادة إلى نوعين من التفكير، التفكير العقدي الواقعي العملي الموضوعي الذي يقوم على ملاحظة قيم وأحكام الدين، وعلى ملاحظة فروض ومقتضيات الواقع من عزائم ورخص، ومن حقائق وضرورات ومقاصد، ثم التفكير العقدي التخيلي العاطفي الذي يقوم على الفروض تخيلية..
وهؤلاء تجدهم مثلا يتحدثون عن الخلافة، وليس عن آليات الوصول لها، وعن أحكام العقوبات؛ لأنها الأسهل في الفكرة وفي التنفيذ، ولا يحسنون الحديث عن الفروق بين السياسات، ويتحدثون عن الخير والشر جملة.
أما الفرق بين هذين النمطين من التفكير فهو كبير، من حيث المنطلقات، ومن حيث السلوك، ومن حيث القناعات، ومن حيث الممارسات، ثم من حيث إمكانات ومحطات الوصول.. وفي البيان أقول:
الانطلاق من القيم والفروض العقدية والدينية لا يمنع النظر للواقع، فهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يحكّم الفرض العقدي فقط في سياساته، ولكنه كان يراعي الحال، وينظر في المصالح والمآلات، ويراعي المتغيرات، ويقدر المآلات، وكله من خلال قراءة دقيقة موضوعية للواقع، فنجده يصالح من كان يحاربهم أو يحارب من كان يصالحهم، ويحالف كافرين كبني ضمرة وكيهود أول الهجرة، ويعادي المحاربين كقريش وكيهود ما بعض نقض العهود، وكان يحسن المناورة، فقد همّ في غزوة الأحزاب أن يتنازل عن ثلث ثمار المدينة لقبيلة غطفان ليردهم، وفي صلح الحديبية قبل بمسح وصفه برسول الله حرصا على الصلح وحقن الدماء إلى غير ذلك من مراعيات الواقع.. وإذن فدوافع العقيدة وموانعها لم تمنع من تغيير السياسات وفق المقتضيات.
كما أن الارتكاز على القيم العقدية والارتكاز على منطلقات الدين يحمل على الفعل، وقبله على الأخذ بعزيمة الفعل، ثم بأسبابه، كما أن أصحاب هذا الفكر يرون الإيجابيات كما يرون السلبيات، ويحافظون على سلم الإنجازات، ويفهمون قيمة وأثر المجاملات والصبر، ويحسنون التراجع والتنازل عند اللزوم بقدر ما يحسنون اغتنام الفرص عندما تلوح.. ما يؤدي لأن تتسع قاعدة التقائهم مع الآخرين ومساحة الشراكة الوطنية، حتى لو اختلفت المشارب وتباينت الغايات وتقاربت أو تباعدت دوائر الاهتمام، تماما كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عن حلف الفضول مع الكفار بأنه لو دعي إليه في الإسلام لأجاب.
أما من يفكرون بالنمط الخيالي الأمنياتي الأحلامي ومهما انطلقوا من المفاهيم الدينية والقيم العقدية الحكيمة، فإنهم لا ينجزون مشروعا مهما بلغوا فيه، لأنهم يعيشون في الخيال، والخيال يتسع ويضيق حسب القدرة الشخصية للمتخيل على السرحان وحسب مستوى تأججه العاطفي، وجمعه للصور الذهنية من الكتب وقصص السلف والتجارب، والحوارات النفسية.. فتتعزز عند هؤلاء الخصوصيات الفردية ويدور تنظيم كامل حول شخص واجتهاداته وأفكاره وآرائه وتحليلاته.
مشكلات هذا التفكير الأمنياتي كثيرة ومعقدة، ولكنها في حالين أكثر إشكالا وأخطر ضررا.
الحال الأول: أن يرى هؤلاء الحالمون إخوانهم من الإسلاميين الذين اتخذوا خط الواقعية، متنازلين ومزيفين ومنافقين وخاطئين، بقدر ما يرون أنفسهم على كمال الدين، في حين يراهم الآخرون متطرفين تنظيريين تكفيريين، فتنقطع النصيحة بين الفريقين، ويسهل استثمار المتربصين في خلافاتهم..
الحال الثاني: أن عدم النظر لطبيعة هذا النمط من التفكير وعدم وضع آليات صحيحة لتشخيص أحواله وتفكيك تعقيداته، وإجمال الدين ذاته والعقيدة الصحيحة بأفكارهم القاصرة والخاطئة، وتقديم الحلول الأمنية والتآمرية عليهم.. كله يؤول لإنقاص معنى الدين من جهة وتبرير التطرف وسوء الظن من جهة أخرى.
آخر القول: عن الوسطية في فهم الدين والسلمية في معاملة المخالفين وعن سنة ومنهجية رسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة، وعما يقابل ذلك من التطرف والتكفير الأمنياتي، الذي ينتهي بالفشل، ويوسع دائرة العجز لدى اتجاهات الإصلاحيين والإسلاميين.. عن ذلك أتحدث.
(نقلا عن صحيفة بوابة الشرق)