لم ينكشف حجم الخراب والدمار والإرهاب الذي يمارسه إعلام الاستبداد في
تونس مثلما انكشف خلال هذا الشهر الكريم، فلا يمكن تصور المستويات التي نزلت إليها المنابر
الإعلامية التونسية الخاصة منها والعمومية،أخلاقيا وقيميا في بلد ينصّ دستوره على أنه بلد مسلم لغته العربية.
ففي هذا الشهر الذي تصفد فيه شياطين الجن تنطلق فيه "شياطين الإعلام التونسي"في بث كل أنواع الرذائل والسموم الأخلاقية من المسلسلات الهابطة والحفلات الماجنة، والدعوة إلى كل أنواع المعاصي في استفزاز صريح لمشاعر الصائمين وتحد واضح لقيم المجتمع.
الخطير كذلك هو أن هذا الإعلام يشتغل وفق مخططات خطيرة تستهدف قيم المجتمع وتهدد النسيج الأعمق الذي يتأسس عليه الكيان القومي والوطني للمجموعة البشرية المستهدفة، فخطورة الإعلام التونسي على القيم الاجتماعية وعلى السِّلْم الاجتماعي تجاوزت كل الحدود الممكنة، وتحولت إلى خطر يهدد الجوار الإقليمي للدولة التونسية من خلال الإساءة الصريحة للشعب الليبي المناضل عبر برنامج هزلي كادت نتائجه أن تكون وخيمة على العلاقات التونسية الليبية بسبب استهداف سكان مدينة بكاملها.
محاربة القيم وتجفيف الينابيع وتدمير الخلايا الثقافية المقاوِمة للاختراق والمؤسسة لهوية الفرد والمجموعة ليست جديدة على الإعلام التونسي الرسمي منه والخاص بل هي الوظيفة نفسها التي تكفل بها " إعلام العار" ـ كما يسميه التونسيون ـ خلال فترة الاستبداد زدْ على ذلك الحرب المشبوهة التي قادتها المنابر الإعلامية نفسها خلال الثورة التونسية عندما وصفت المتظاهرين والثوار بأنهم "مخربون" و"إرهابيون".
الأخطر في سلوك الإعلام التونسي هو تأثيثه للأرضية التي ينمو عليها التطرف والإرهاب من خلال مستويات كثيرة.
أحدها ما تولده الحرب على القيم وعلى الدين وعلى الهوية من إحساس عام بالتعدي على المشاعر الخاصة للفرد وللمجموعة، فالمسلسلات الهابطة والدعوة إلى الانحلال وإلى الرذيلة في خطاب صريح ومباشر يولد لدى الشباب المحافظ خاصة حالة من الإحباط ومن الغضب يسهُل توظيفه في الدفع نحو التطرف ونحو الغلوّ، وهو ما يجعل منه فريسة سهلة لجماعات العنف المنظم.
من جهة أخرى تتسبب المضامين الإعلامية الهابطة في توسيع الشرخ بين الطبقات الاجتماعية الميسورة من ناحية والمتوسطة والفقيرة من ناحية أخرى، حيث يعبّر الإعلام الرسمي عن ثقافة الطبقة الحاكمة وعن مضامين أخلاقية خطيرة تعود بجذورها إلى ثقافة استعمارية قديمة، وإلى نماذج تربوية تغريبية لا علاقة لها بثقافة المجتمع وبهويته وقيمه.
تونس تعرف منذ بداية القرن الماضي شرخا كبيرا بين شمال البلاد وجنوبها خاصة وهو شرخ أكدته الانتخابات الأخيرة من انقسام جغرافي ولساني وتنموي ينذر بالأخطر، وليست المضامين الأخلاقية والثقافية واللسانية التي يبثها الإعلام الوطني إلا ترسيخا لهذا الانقسام وتعميقا للشرخ المهدد لوحدة البلاد.
ثقافة الجنوب ولهجته المحلية وخصائصه الثقافية وكذا خصائص أهالي الشمال الغربي وكل الأعماق الفقيرة للبلاد ليست ممثلة في الإعلام الرسمي ولو بشكل جزئي بل الأخطر من ذلك أنها مواضيع للتندر والتهكم والاحتقار والازدراء وهي سُنة قديمة سنها الوريث الاستعماري الأول "الحبيب بورقيبة" والوريث الثاني" بن علي" في تمكين واضح للمنوالات الثقافية المابعد استعمارية في تونس وفي كامل منطقة شمال المغرب العربي.
من جهة ثانية تمثل القطيعة بين الإعلام الوطني وبين الغالبية الساحقة من الشعب العربي المسلم في تونس دافعل نحو التوجه إلى قنوات عربية أخرى لا تخضع للرقابة أو التقييم أو نحو قنوات غربية مما يعمق القطيعة بين الإنسان وأرضه وثقافته وهويته ويفصله عن الحاضنة الطبيعية التي يجب أن ينمو عليها ويتغذى منها ردة فعل الفضاء الافتراضي على ما نشره الإعلام التونسي خلال شهر رمضان، من دعوات للفتنة والانحلال لم تعرها السلطات الرسمية أية قيمة بل كان قرار هيئة الرقابة الإعلامية الممثلة في "الهيئة المستقلة للإعلام السمعي والبصري" صادما للعديد من المراقبين.
فقد قررت الهيئة المعروفة بنزعة أعضائها الاستئصالية اليسارية وبانتماءاتها التجمعية الموالية للنظام القديم، غلق مجموعة من القنوات والإذاعات، وقد كان المستهدف من الغلق "قناة الزيتونة " ما تميزت به القناة من كشف ملفات الفساد التي تنخر جسد الدولة منذ الإستقلال الموهوم.
القناة المستقلة نجحت في استقطاب جزء كبير من المشاهدين بعد أن أظهرت للعيان المستويات التي بلغها الفساد الممنهج، ونهب ثروات البلاد ورهن مستقبل أبنائها لشركات السطو العالمية. حملة "وينو البترول" مثلا والتي طالبت بالشفافية في حصر الثروات التونسية، وفي الحد من نزيف النهب غطتها قناة الزيتونة بحرفية عالية وهو ما جلب لها متاعب كبيرة، وساهم في التهديد بغلقها مع قنوات أخرى محسوبة على التيار المحافظ.
المشهد الإعلامي التونسي لم يعد منفلتا فحسب بل كشف عن نوايا خطيرة جدا تهدد السلم الاجتماعي وتضرب الوحدة الوطنية، وتنشر الفكر التغريبي المتطرف وتعمل لصالح مجموعة من العصابات الدولية وتحدد أجنداتها أحيانا سفارات أجنبية تمثل الحاكم الفعلي للمشهد الثقافي، والإعلامي التونسي.
كيف يمكن أن نتصور إعلاما يشتغل ضد مصلحة الوطن؟ وكيف يمكن تصور أحزاب ومؤسسات وهيئات ومجتمع مدني عاجز أمام الجرائم الإعلامية اليومية ؟ أليس الجميع متواطئا ضد الهوية الوطنية وضد قيم الدولة والوطن؟ هل يحق لنا أن نستغرب ونفاجأ عندما ينتشر التطرف والعنف بين الشرائح الاجتماعية الأكثر هشاشة مثل فئة الشباب؟