ينتاب الواحد منا شعور غريب عندما يمر أمام ناظريه مقطع من السينما أو
الدراما الكوميدية العربية العائدة إلى النصف الثاني من القرن الماضي، أحقا كان من سبقونا يتسلّون بمتابعة مثل هذه الأعمال؟ هل انفجر جمهور مسرحية "كل الرجالة كده" للراحل الكبير إسماعيل ياسين ضحكا كما فعل الظاهرة عادل إمام بجمهوره، وحتى بزملائه الممثلين على الخشبة في مسرحية "شاهد ما شافش حاجة" وغيرها من الروائع العابرة للقرنين؟ والحقيقة هي أنه بالفعل كان إسماعيل ياسين في عصره يوازي عادل إمام عصرنا، كما كان شارلي شابلن ملك الكوميديا البريطانية التي اعتلى عرشها لاحقا "مستر بين".
لكن الذي يحصل هو أن الذائقة الفنية والأدبية الجمَعية تتطور بموازاة المتغيرات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية والتكنولوجية، وينسحب الأمر على معظم آداب وفنون وسائط الاتصال. وأَن نعتبر أنَّ إسماعيل ياسين لو بُعثَ الآن من جديد دون تجديد، أي كما هو بنصوصه ولغات لسانه ووجهه وجسده سينبت الحشيش على مدخل مسرحه، فهذه حقيقة بديهية ليس فيها انتقاص من قدرات وخبرات ياسين، لكن القاعدة العابرة للأزمنة هي أن لكل زمن رجال، وأفطنهم هو من يحسن اختيار توقيت الاحتجاب إن لم يحجبه الموت حتى يفسح بالمجال لرواد جدد، وحتى لا يضع فوق أرشيفه ما يجعل ماضيه أهمّ من حاضره.
محمد حسنين
هيكل مثال لهؤلاء الكبار الذين عرفوا متى يحتجبون، ففي يوم ميلاده الثمانين أعلن اعتزاله الكتابة والعمل الإعلامي ورفض الاحتفال بعيده (فكيف أحتفل بعيد ميلادي وأنا أرى أمتي تخرج من التاريخ...)، عبارة خرجت بحرقة من فم "الأستاذ" مترافقة مع نفخة دخان من احتراق سيجارة الكوبي الفاخر، إلا أن الذي حصل هو أن عميد الصحافة العربية زُجَّ في أتون العمل الإعلامي بعد ذلك من حيث يقصد أو لا يقصد، محللا استراتيجيا متنقلا من فضائية إلى أخرى، ومن مؤتمر إلى ورشة فكر وسياسة، إلى استعادة دوره كمشارك في الحكم أحيانا على طريقته الخاصة، وما كان يكتبه بقلمه أصبح يردده بصوته في التلفزيونات وفي المقابلات الصحفية، ليس لترجمة سيرته الثرية بل لتحليل ما يجري من أحداث حول العالم من شوارع صنعاء إلى شواطئ هافانا، فبدا مثل "توماس إديسون" يجول على امبراطورية "آبل" ل"ستيف جوبز"، ويُنَظِّر في تطبيقاتها المعلوماتية لعالَم الكمبيوتر التي تواكب اللحظة في تسارعٍ مُخيف. فوضَع "الهيكل" رمزَه الامبراطوري على المِحك أكثر من مرة، وكاد أن يضيِّعه في حلقة على تلفزيون "سي بي سي"
المصري سجّلها قُبيل تشكيل قوة عاصفة الحزم العربية بأيام قليلة، مستبعِدا أي تحرك لدول الخليج لضرب الحوثيين، فقضت حكمة إدارة "سي بي سي" بعدم بث المقابلة، حتى لا تُعرّض هرم الصحافة المصرية للانهيار أمام أجيال سمعت عنه ما هو أعظم بكثير مما ستسمعه منه.
وقبل ذلك كانت هناك نكسة أخرى من العيار الثقيل عندما انتقد الكاتب العالمي سيمور هيرش ما اعتبره تحول موقف هيكل السياسي في ما يخص الأوضاع الحالية في مصر، بما يخالف مبادئه التي كان دوما يتحدث بها معه. هيرش خصّ صديقه القديم هيكل بمقال في "واشنطن بوست" ختمه بعبارة موجِعة (لقد سقط القناع عن هيكل، واختفى هيكل الذي كنت أحترمه.).
أما المحطة الثالثة مع تعرض هيكل لسيل من الانتقادات، فكانت بعد نشر صحيفة السفير اللبنانية مقابلة أجراها معه الأستاذ طلال سلمان في الشاليه التي يقيم فيها بمنتجع "الرواد" على الساحل المصري الشمالي. وردّ "الأستاذ" ذو الاثنتين وتسعين عاما على أسئلة المقابلة التي تركزت على قراءة تداعيات الاتفاق النووي الغربي الإيراني، فشابت إجاباتِه بعضُ التقرحات في الذاكرة والتركيز والانتباه والتخطيط والتفكير واللغة والإدراك، وهي نواقص تشكل مجتمعة علامات تحذيرية واضحة من السقوط في مرض الزهايمر، وذلك على الرغم من إصرار الصحيفة على تأكيد سريان مفعول الذاكرة عند هيكل، وتكرار طمأنة القراء على ذلك ثلاث مرات في نحو ستة سطور (الذاكرة المميزة التي تحتفظ بشبابها... ذاكرته نضرة... إن له ذاكرة فيل...).
بدا هيكل على غرار حديثي العهد في الزهايمر يتذكر قديم الأحداث أكثر من جديدها، ثم قدّم تقييما لأداء الرئيس الأمريكي باراك أوباما مرتكزا على حقبة اضطهاد البيض للسود في أمريكا، دون الاكتراث بالمتغيرات الهائلة التي أعقبت تلك الحقبة، وعلى الرغم من انتخاب الشعب الأمريكي أوباما مرّتين إلا أنه يشكك في نزاهة دوافع اختيار الأمريكيين (...فليس من الطبيعي أن تأتي برئيس "أسود" وبأغلبية الأصوات في الانتخابات.. فالأغلبية هي للبيض.).
لقد أوقع "الأستاذ" نفسه في متناقضات عديدة ليس أقلها إضفاؤه في بداية المقابلة قوة عُظمى على إيران، تمكنها حتى من تقليم أظافر الولايات المتحدة الأمريكية، (التحدي الوحيد الموجود في المنطقة بالنسبة إلى السياسة الأمريكية هو إيران)، (العامل النفسي يؤدي دورا وقد بات الجميع يخاف من إيران)، (إن فشل أمريكا حتى الآن في تطويع الثورة الإيرانية أو استبدالها بنظام آخر يضعها أمام نزاع خطر، قد يدخل في مرحلة يقلم فيها الطرفان أظافر بعضهما بعضا، ويصعب على أمريكا أن تقبل بنظام قوي في إيران). ثم ومن دون سابق إنذار يخلص هيكل إلى (الآن إسرائيل مهيمنة على المنطقة كلها)... كما وجد أن إيران تقود حلفاء ضعفاء من حزب الله إلى النظامين السوري والعراقي، (أما الحركات والتنظيمات التي تعتمد عليها، فكلها ضعيفة. يشكل حزب الله قوة كبيرة في لبنان، ولكن لبنان كله، مع احترامي لكم، له حدود في التأثير، فكيف إذا كانت سوريا مدمرة بهذه الطريقة التي هي عليها اليوم، وإذا كان العراق يعيش أو يموت بالطريقة التي نشهدها). لكنه قبل ذلك قلل هيكل من قدرة أمريكا على صنع المتغيرات (ما غيّر الأوضاع ليس أوباما، بل ما غيّرها هو أن كوبا وقفت وإيران وقفت)، كوبا وعاصمتها هافانا... بالنسبة لهيكل فإن العداء الأمريكي لإيران سيستمر (ما تقوم به أمريكا اليوم هو أنها تشغل إيران إلى أن تكون قد استولت بالكامل على سوريا، وتشغل إيران إلى أن تكون قد استولت بالكامل على الأردن). نعم، الأردن، يقول هيكل.
يرى "الأستاذ" أن حزب الله يقاتل في سوريا دفاعا عن نفسه وليس لأنه جزء من مشروع إيراني، وفي الوقت نفسه هو أحد أجنحتها التي يحاول خصومها قصه (...قتال "حزب الله" في سوريا هو للدفاع عن نفسه... فمن يريد أن يضرب إيران اليوم يحاول أن يقص أجنحتها في أي مكان لديها فيه نفوذ.).
يقول هيكل (...الإيرانيون لم يفعلوا سوى أنهم كانوا أنفسهم، هناك حضارة فارسية على هذه الأرض وفي هؤلاء الناس.)، لكن المواد الأربعة عشر للفصل الأول من الدستور الإيراني، الأصول العامة، ليس فيها أية إشارة للبعد القومي، بل إن دستور البلاد مستمد بالكامل من الفهم الشيعي للحضارة الإسلامية حصرا، ويُعتبر الولي الفقيه نائبا للإمام المهدي عليه السلام في زمن غيبته، فإذا كانت العقيدة الرسمية للدولة لا تؤشر على الحضارة المُعاشة فما الذي يؤشر عليها.
بأسلوب مفاجئ يسخر "الأستاذ" من بلاد السودان في معرض حديثه عن مشكلة العرب (مشكلتنا في العالم العربي، أنك لا تجد بين المسؤولين من لديهم الإرادة لصنع تاريخهم. المنطقة الأغنى هي الخليج، والمنطقة الأهم وهي مصر والشام عندها مشاكل كثيرة، أما المغرب العربي فهو غارق في مشاكله و "زهقان" من المشرق العربي... فأين يبقى الأمل؟ في السودان؟...).
بالنسبة لتقييم هيكل للقيادة التركية الراهنة والرئيس رجب أردوغان فهو سلبي حتما، لكنه قال كلاما مشوَّشا يحتاج إلى تفكيك وإعادة صياغة ... (...في تركيا من هم مثل أردوغان لا يُبنى على مواقفهم... تركيا إلى المأدبة المتوسطية والأوروبية والأردوغانية. أما عن أردوغان، فكل واحد منا يعبّر في النهاية بطباعه عن طبيعته. كيف تطلب من مخلوق يفترض أن طبعه لا يعبر عن طبيعته وطبيعته لا تعبر عن طبعه أنه تركي عثماني بالتأكيد.. وبعد لحظات استدرك "الأستاذ" فقال: في أي حال لقد ظلمنا الأتراك. هم أدّوا دورا مهما في حماية الإسلام وأرض الإسلام بعد انهيار العصر المملوكي. محمد علي من داخل الإسلام كان فريدا في بابه...).
ختاما ورغم هذه الإشارات الواضحة في ضعف البنية الذهنية الراهنة لمحمد حسنين هيكل، وهذا أمر طبيعي لرجل في العقد العاشر من عمره، إلا أن أحدا لا يستطيع أن ينكر أنه كان وما زال رمزا للصحافة العربية المكتوبة منذ زمن التلفزيون الأبيض والأسود وإذاعة "أحمد سعيد" ومسرح إسماعيل ياسين، والأمة أمةٌ حين تكرم كبارها وحين تحترم عقول صغارها. والحقيقة هو أن أحدا ممن تلاه لم يجارِه في حضوره على مساحتنا، لكن ما ينبغي أن يعالج هو كيفية تظهير وصيانة هذا الحضور لحماية إرثنا العربي به وبأمثاله. قد لا يكون "الأستاذ" واقفا في طابور مرض الزهايمر، كما نأمل، فقد تكون نرجسية الجنرالات المتقاعدين معطوفة على مجد غابر من قراءة الأحداث وصنعها، وقد يكون وضعا خاصا به من دون العباد، قد يكون مرض الزهايكل...