حياة غامضة وموت أشد غموضا هي خلاصة مسيرة زعيم حركة
طالبان الأفغانية الملا محمد عمر، وإذا كنا لا نقطع باليقين بمعرفة تاريح ولادته فإننا نتلبس بالظن والشك بحلول تاريخ وفاته، لكن الأجهزة الاستخبارية التي عملت على صنع أسطورته تعلم جيدا روايته، فعندما أعلن المتحدث باسم الاستخبارات الأفغانية حسيب صديقي في 29 تموز/يوليو 2015 أن
الملا عمر زعيم حركة طالبان توفي، قطعت بأن الوفاة حدثت قبل عامين في إشارة إلى ذات المصادر التي أن وفاة الملا عمر كانت في نيسان/ابريل 2013.
في اليوم التالي صدر بيان حول إعلان وفاة سماحة أمير المؤمنين الملا محمد عمر مجاهد من قبل مجلس الشورى القيادي بإمارة أفغانستان الإسلامية، دون أن يحدد تاريخ الوفاة وملابساتها، ثم أعقبته ببيان أعلنت فيه انتخاب الملا أختر محمد منصور زعيما جديدا لطالبان، وعلى الرغم من تنامي التصدعات والتشققات في هياكل جركة طالبان، وتزايد الاختلافات الإيديولوجية والاستراتيجية، فقد تمكنت الحركة من حسم الخلافات حول قيادة الحركة، إلا أن ذلك لا يعني قبول الأجنحة المختلفة المطلق التي كان بعضها يفضل اختيار نجل الملا عمر الأكبر المولوي محمد يعقوب، وبعضها كان يرغب بتولي رئيس المجلس العسكري لحركة طالبان الملا قيوم ذاكر، وهما من أشد معارضي نهج أختر منصور المتعلق بالسلام مع حكومة أشرف غني الأفغانية، وعلاقاته مع جهاز الاستخبارات
الباكستانية.
تشير المعلومات الأكثر موثوقية أن وفاة الملا عمر كانت في كانون ثاني/ يناير 2013، فقد تسربت الأخبار في 23 نيسان/ أبريل 2013 بأن الملا عبد الجبار الذي كان الصلة الوحيدة بين الملا عمر ومجلس شورى كويتا الذي يدير شؤون حركة طالبان أكد بأن الوفاة حدثت في كانون ثاني/ يناير 2013، وأن الملا عمر أخبر الملا عبد الجبار بما يفعله في حالة موته أو إلقاء القبض عليه، وهو الاتصال بالملا شيخ عبد الحكيم، العالم الديني والصديق القديم للملا عمر ومستشاره، وبعد ذلك قام الملا عبد الحكيم بإيصال الخبر لثلاثة من قادة حركة طالبان البارزين، وهم: رئيس مجلس شورى كويتا الملا أختر منصور، ورئيس المجلس العسكري لحركة طالبان الملا قيوم ذاكر، والعالم الديني وصديق الملا عمر القديم الملا عبد السلام.
تأكيد خبر وفاة الملا عمر جاء في سياق تحولات عميقة في الظرف الدولي والإقليمي والمحلي الخاص بأفغانستان وحركة طالبان، وتتمثل بدخول الحركة في محادثات سلام مع حكومة أشرف غني الأفغانية تحت إشراف باكستاني، وصعود
تنظيم الدولة الإسلامية في خراسان، ومنافسة أبو بكر البغدادي للملا عمر على لقب أمير المؤمنيين، فقد تعمقت الانشقاقات في صفوف طالبان الأفغانية، وباتت أعلام الدولة الإسلامية ترفرف فوق محافظات غزنة، وكابول، وزابول، وقندوز، وفرح، ونيمروز، كما أصبحت حركة طالبان الباكستانية بقيادة الملا فضل الله، تعاني من التشرذم والانقسام ودخلت في حالة من الفوضى تحت وقع حملة عسكرية مكثفة من الجيش الباكستاني، وباتت الدولة الإسلامية ملاذا ومنقذا.
لقد أربك دخول الدولة الإسلامية إلى خراسان حسابات طالبان وباكستان، التي كثفت ضغوطاتها على الجناح الأكثر استقلالية وتشددا في حركة طالبان منذ وفاة الملا عمر كانون ثاني/ يناير 2013، فقد اعتقلت وقتلت كل من أبدى استعداده للخوض في مفاوضات السلام مع أفغانستان دون إذن باكستان، فقد طلبت السلطات الباكستانية من طيب آغا مدير مكتب طالبان السياسي في عاصمة قطر الدوحة، مرات عديدة العودة إلى باكستان والعمل تحت إشراف (آي إيس آي) إدارة الإستخبارات الباكستانية المركزية، والتقى رئيس جهاز (آي ايس آس) بطيب آغا في قطر وحاول إقناعه على العودة إلى باكستان، إلا أن طيب آغا لم يقتنع ولم يعد، رغم الضغوطات المستمرة التي تمثلت باعتقال شقيقه والتهديد باعتقال كافة أفراد أسرته، وقد كان أحد أقرب الأشخاص للملا محمد عمر.
قامت الاستخبارات الباكستانية على مدى سنوات بالتخلص من القيادات الطالبانية التي لاتخضع لأوامرها بطرائق عديدة، وعملت على التقارب مع الأجنحة الأكثر اعتدالا وتمثيلا لمصالحها، حيث وجدت في الملا أختر محمد منصور ضالتها، فحتى عام 2009 كان أختر منصور نائبا للرجل القوي الملا عبد الغني برادر في المجلس الأعلى للطالبان، وقد قامت باكستان باعتقال الملا برادر في شباط/فبراير 2010، ليصبح منصور مؤقتا المسؤول عن المجلس الأعلى لطالبان. وفي حين أنّ قادة آخرين من طالبان قد سُجنوا أو وُضعوا تحت الإقامة الجبرية من قِبل السلطات الباكستانية؛ كان منصور خيار باكستان المفضل؛ بسبب توافقه التام مع سياسة جهاز المخابرات الداخلية في باكستان، وحتى أواخر عام 2012، كان يُنظر إلى منصور باعتباره من المتشددين بين قادة طالبان، خاصة في ظل معارضته لأي محادثات مع حكومة حامد كرزاي، ومنذ وفاة الملا عمر عام 2013 وحتى الآن، يبدو أنّ موقفه قد تغير؛ ليضعه مباشرة على خلاف مع عبد القيوم ذاكر رئيس المجلس العسكري لطالبان، الذي أعلن عن استقالته من منصبه في نيسان/ أبريل 2014، متعللا بالمرض، إلا أن السبب الحقيقي لاستقالته كانت خلافاته مع الملا منصور المتعلقة بمحادثات السلام.
تسبب دخول الدولة الإسلامية إلى خراسان بمعضلة حقيقية لطالبان وباكستان فضلا عن القاعدة والولايات المتحدة الأمريكية، فقد عمل التنظيم بخطوات ثابته لإيجاد موطئ قدم في المنطقة، وأنشأ خطوط تواصل دائمة مستثمرا بروز جملة من الخلافات الأيدولوجية والاستراتيجية للعديد من الجماعات المحلية، بما في ذلك تنظيم القاعدة وحركة طالبان الأفغانية، ففي عدد كانون أول/ديسمبر 2014 من مجلة "دابق"، نشرت المجلة مقالا يتهم فيه تنظيم القاعدة وحركة طالبان الأفغانية بالتخلي عن الإسلام من خلال دعم القانون القبلي فوق الشريعة، والفشل في الاستيلاء والسيطرة على الأراضي بفاعلية، وتجاهل استهداف السكان الشيعة، وقبول الاعتراف بالحدود الدولية، وفي أيلول/ سبتمبر 2014 أرسلت الدولة الإسلامية ممثلين عنها إلى باكستان للقاء قادة الحركات الجهادية المختلفة ومن بينهم بعض قادة حركة طالبان باكستان، وقد أسفرت اللقاءات عن الحصول على عدد من البيعات.
بحلول كانون ثاني/ يناير2015 كانت الدولة الإسلامية قد توصلت إلى صيغة محددة للإعلان عن تدشين ولاية جديدة، فقد أعلن الناطق باسم تنظيم "الدولة"، أبو محمد العدناني، في 26 كانون ثاني/ يناير2015 عن قيام "ولاية خراسان"، عبر كلمة صوتية بعنوان "قل موتوا بغيظكم"، وأكد على أن الخليفة أبو بكر البغدادي، قام بتعيين
حافظ سعيد خان، والياً على ولاية خراسان، وعين عبد الرؤوف خادم نائبا له، وكانت الولايات المتحدة والحكومة الأفغانية تتابع بقلق بالغ تمدد الدولة الإسلامية وجهود خادم وخان، وعملت على اغتياله مرارا، ونجحت في 9 شباط/ فبراير 2015، باغتيال خادم من خلال طائرة أمريكية بدون طيار، وكانت وكالة المخابرات الأفغانية قد قالت إن حافظ سعيد قتل في منطقة أتشين في اقليم ننكرهار في 15 مارس/آذار 2015، إلا أنه ظهر لاحقا مؤكدا على كذب أنباء مقتله.
عقب الإعلان عن محاولة اغتيال خان بث المكتب الإعلامي لولاية خراسان رسالة صوتية بعنوان "رسالة إلى أهلنا في خراسان"، تجاوز فيها حدود الدبلوماسية وكشف بعض الألغاز المحيرة، حيث أكد والي الدولة الاسلامية في خراسان حافظ سعيد خان، أن لملا عمر متوفي منذ سنوات ورغم وفاته استمرت قيادة طالبان التي تتحكم فيها المخابرات الباكستانية -وفقا لأمير ولاية خراسان- باصدار البيانات باسم الملا عمر واصدار التهاني والرسائل باسمه في الأعياد والمناسبات، وقد صدر بيان مماثل عن عثمان غازي أمير الحركة الإسلامية لأوزبكستان، وكانت قد بايعت أبو بكر البغدادي يؤكد فيه على وفاة الملا عمر.
كان للرسالة وقع الصدمة على قيادة طالبان، حيث أرسل مجلس شورى قيادة طالبان رسالة باسم نائب أمير "الإمارة الإسلامية" ملا أختر محمد منصور، إلى زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبو بكر البغدادي، 16 حزيران/ يونيو 2015 مطالبا بعدم التدخل في الشأن الأفغاني، ومؤكدا على وجود الملا عمر كأمير للمؤمنين، و وكانت طالبان قد نشرت في 8 نيسان/ أبريل 2015 ردا على تواتر الشائعات بوفاة الملا عمر، نشرت الحركة سيرة أسطورية للملا عمر تتماهى مع سير الأولياء، لقطع الطريق أمام تنظيم "الدولة الإسلامية"، وتؤكد على أن الملا عمر لا يزال يدير الأنشطة اليومية لطالبان.
في ظل الانقسامات داخل حركة طالبان بسبب غياب القيادة والمصداقية، وضعف تنظيم القاعدة تمكن تنظيم الدولة الإسلامية من التمدد في جنوب ووسط آسيا، ونجح في كسب الحركات الجهادية، إذ لا يقتصر نفوذ التنظيم على حركة طالبان بنسختيها الأفغانية والباكستانية، فقد حصل على ثقة وبيعة الحركة الإسلامية لأوزبكستان، وحركة تركستان الشرقية الإسلامية، وجماعة جند الله البلوشية.
أحد المسائل التي أثارها تأكيد خبر وفاة الملا عمر هو حجم الاختراق الاستخباري لحركة طالبان، والانقسامات العميقة داخل الحركة، وضعف البنية الأمنية للحركات الجهادية التقليدية وفي مقدمتها تنظيم القاعدة التي ظهرت كحركة ضعيفة ملتزمة ببيعة رجل ميت منذ زمن بعيد، والأهم من ذلك كله فقدان مجلس شورى طالبان لثقة الناس عموما والجهاديين خصوصا لمصداقيته، وفي ذات الوقت كشفت مسألة الإعلان عن وفاة الملا عمر عن تفوق تنظيم الدولة الإسلامية وقدرات مجلسه الأمني الاستخباري، فلولاه لبقي الملا عمر حيا لأمد بعيد يصدر بياناته ويدير حركته من غرف الاستخبارات فيما هو بين يدي رحمة ربه.