سعيا لحل مشكلة الكثافة
السكانية، فقد قامت
الجزائر ببناء ملايين المنازل، لأنه يراد لعاصمة هذا البلد أن تكون أول عاصمة أفريقية خالية من أحياء الصفيح. لكن التسرع في بناء هذه المجمعات يهدد بتحويلها إلى مرتع للانحراف.
فمنذ الاستقلال، والبلاد تسجل ارتفاعا كبيرا في عدد السكان، إذ إن العدد انتقل من تسعة ملايين في العام 1962 إلى أربعين مليونا في العام 2015.
واستقطبت سياسة التصنيع في السبعينيات سكان الأرياف نحو المدن، فنمت في أطرافها الأكواخ والبناءات العشوائية، وحاولت الحكومة القضاء عليها بإعادة ترحيل النازحين إلى قراهم الأصلية.
وفي التسعينيات، شهدت البلاد نزوحا ريفيا جديدا في ظل أعمال العنف الدامية. وأصبحت محاربة المجموعات الإسلامية المسلحة هي الأولوية لدى السلطات، وتخلت عن مهام مراقبة
العمران.
وتضاعفت أعداد الأحياء العشوائية في الضواحي القريبة من المدن.
وبحسب وزير السكن عبد المجيد تبون، فإن النزوح الريفي "تسبب في مضاعفة الطلب على السكن عشرين مرة مقارنة بالعرض".
بعد ذلك، وبفضل ارتفاع مداخيل الدولة بفعل ارتفاع أسعار النفط والغاز، ومع تراجع العنف المسلح، فقد بدأت الحكومة في بناء مئات الآلاف من المساكن، من أجل قاطني الأكواخ وللاستجابة للطلب المتزايد على السكن.
ووعدت السلطات كل عائلة جزائرية بالحصول على سكن مجاني، وتخليص عاصمة البلاد نهائيا من الأكواخ والأحياء العشوائية.
ويتزاحم لتنفيذ هذه المشاريع مقاولون من الصين وتركيا والبرتغال ومصر والإمارات وقطر. إلا أن كثيرا من هذه الأحياء "تفتقر لمؤهلات الحياة الكريمة خاصة في مجال النقل ووسائل الترفيه"، بحسب المهندس المعماري العربي مرحوم، الحائز مرات عدة على الجائزة الوطنية للهندسة.
ويبدي مرحوم قلقه من أن تتحول هذه الأحياء إلى "غيتوهات اجتماعية" يتنامى فيها الانحراف كما حدث في المدينة الجديدة علي منجلي في قسنطينة (شرقا).. فقد تحول هذا الحي الكبير الذي يقطنه 150 ألف ساكن، إلى مسرح لحرب العصابات، ما جعل أحد الوزراء السابقين يصفه بأنه "كارثة عمرانية"، ولم يتردد رئيس الوزراء عبد المالك سلال عن اعتباره "مثالا سيئا لا يجب اتباعه".
ويرى المهندس مرحوم أن هذه المشكلات ناجمة عن إخفاق السياسات الحكومية في مجال الإسكان، قائلا: "نحن نفكر في السكن ولا نفكر بالمدن".
ومما يقلق المعماريين والمهتمين بالتراث المعماري للجزائر هو الخطر المحدق بالطابع العمراني المتميز للعاصمة في قصبتها المعلقة بين الأرض والسماء، المدينة القديمة التي تهدم حجرا حجرا، رغم أنها مدرجة على قائمة التراث العالمي لمنظمة يونيسكو.
أما المدينة الجديدة الموروثة من عهد الاستعمار الفرنسي فإن جمال طابعها العمراني الأوسماني (نسبة للمهندس جورج أوجين أوسمان) أو الأندلسي المغاربي، يتلاشى شيئا فشيئا لعدم وجود أعمال صيانة.
وفيما تؤكد السلطات أنها ستقضي على ظاهرة أحياء الصفيح في نهاية العام 2015 لتكون أول عاصمة مغاربية وإفريقية تخلو من أحزمة البؤس هذه، يبدي كثير من المتخصصين شكوكهم إزاء القدرة على تنفيذ هذه الطموحات.
ويقول المهندس المعماري أكلي عمروش، مدير مجلة "حياة المدن"، إنه "في غياب مشروع حقيقي للمدينة فإن القضاء على البيوت القصديرية غير ممكن".
ويضيف: "نحن نبني أحياء لا تمتلك أي وسائل للعيش والترفيه، حيث يعاني الساكن الملل".
وترى المهندسة بهية كبير من جامعة عنابة أن "الدولة التي تخطط للسكن بشكل مركزي، تواصل البناء على عجل، لكنها لا تملك القدرات الكافية للوصول إلى أهدافها".
وتقول إن "التأخر (في إنجاز المشاريع) يتراكم وأحياء الصفيح تنمو من جديد أو أنها لا تختفي أصلا، ومع مرور السنين تنشأ روابط اجتماعية في هذه الأحياء التي تعيش بعيدا عن النظام بل وتنشئ قوانينها الخاصة".
وتضيف أنه "عندما يتم إعادة إسكان الناس، فإن هذه الروابط تتحلل في الأحياء الجديدة حيث يأتي السكان من أماكن مختلفة ما يتسبب في نشوء التوتر كما يحدث في المدينة الجديدة بعلي منجلي وفي غيرها".
وقد تحول انجذاب الجزائريين نحو عاصمة بلادهم، حيث تتركز المؤسسات الطبية والتعليمية والتجارية المهمة، إلى مشكلة حقيقية.
ويقول عمروش، إن "الجزائر العاصمة أصبحت مدينة جذابة وكل واحد يريد العيش فيها حتى ولو سكن مؤقتا كوخا في حي قصديري في انتظار إعادة تسكينه"، في أحد الأحياء الجديدة.