لم يعد لدي أي شك ومن مصادر أثق بها أن فريق الرئيس السبسي القانوني استعان في إعداد مشروع قانون "المصالحة المالية والاقتصادية" برمزين من رموز نظام بن علي، ممن كانوا في الصدارة ومن كفاءات منظومة الاستبداد والفساد. بالنسبة للجانب القانوني تمت استشارة فتحي عبد الناظر رئيس المجلس الدستوري في عهد بن علي، الذي أشرف على أكثر من تدليس قانوني ودستوري لضمان مصالح بن علي وحاشيته. وبالنسبة للجانب الاقتصادي تتم الاستعانة في الاستشارة و"الاستدلال" على "منافع" القانون الاقتصادية بتوفيق بكار محافظ البنك المركزي سابقا، الذي خلال عهده قاربت ثلاثة بنوك عمومية على الإفلاس بسبب القروض غير المستخلصة المشطة التي تحصلت عليها حاشية بن علي بسبب ارتباطاتها السياسية.
الآن تكتمل الدائرة؛ المنظومة القديمة ذاتها ودون وسائط تقوم بتفصيل القانون الذي هو على مقاسها بنفسها، فلا يمكن للكفاءات الصغيرة والمتوسطة الحجم في حزب السبسي أن تنافس الخبرات الكفؤة الأصلية في منظومة الاستبداد والفساد.
هناك أكثر من مغالطة يكررها هؤلاء ويضعونها كعناصر للخطاب المدافع عن مشروع القانون. سنفصلها هنا.
أولا، الإيهام بأن قانون العدالة الانتقالية وهيئة الحقيقة والكرامة يعانيان فراغا في القانون والممارسة، ولهذا تقدم الرئيس السبسي وملأ الفراغ. الفصل 45 من قانون العدالة الانتقالية يقول في فقرته الأولى إن لجنة التحكيم والمصالحة تنظر في جميع ملفات الانتهاكات بغض النظر عن نوعها، تشمل الانتهاكات للحقوق السياسية والمدنية، وتبت في صورة مخصوصة أساسها موافقة الضحية وتبت بالاعتماد على معايير الإنصاف. ثم تتعرض الفقرة الثانية والثالثة للفصل 45 لخصوصية ملفات الفساد المالي ويفردها بأحكام خاصة. كما إن الفصل 64 يقول تعهد اللجنة يكون بموافقة الدولة في حالات الفساد المالي إذا تعلق الملف بأموال عمومية أو أموال مؤسسات، تساهم الدولة في رأسمالها بطريقة مباشرة أو غير مباشرة. وهذا يؤكد أن قانون العدالة الانتقالية راعى خصوصية قضايا الفساد المالي وأفردها بأحكام وإجراءات خاصة عكس ما يتم الترويج له.
وهنا من الضروري تأكيد معطى أساسي: قامت هيئة الحقيقة والكرامة بتحضير "دليل إجراءات" فيما يخص التحكيم والمصالحة لتفعيل ذلك وقدمته لرئاسة الحكومة التي تجاهلتها، مثلما تجاهلتها في تخصيص أموال لـ"صندوق الكرامة". ما حصل أن الرئيس السبسي قرر البدء من الصفر وفسخ الهيئة والقانون فيما يتعلق بالجرائم المالية.
ثانيا، الإيهام بأن الناس ضجرت من مسار العدالة الانتقالية وملت وتريد "تحريك الاقتصاد" و"تدوير عجلته". هنا لدينا استطلاع رأي بدعم من الأمم المتحدة حول العدالة الانتقالية في
تونس. شمل الاستبيان 1275 أسرة فيما بلغ مجموع العيّنة التي مسحها واستبيانها 3547 فردا. أي عينة مرتفعة وبالتالي ممثلة في علاقة بمعرفة العدالة الانتقالية، أكثر من 48 بالمئة ممن سمعوا بالعدالة الانتقالية، قالوا إنهم يفهمونها على أنها كشف لحقيقة انتهاكات حقوق الإنسان ارتكبت في الماضي، فيما ذكر أكثر 30.7 بالمائة أنهم يفهمون العدالة الانتقالية على أنها مقاضاة ومحاسبة المسؤولين عن هذه الانتهاكات. أما من اعتبروا أن العدالة الانتقالية هي المسار المؤدي لجبر الضرر للضحايا، تبلغ نسبتهم 19.6بالمئة مقابل 17.2بالمئة يعتبرونها المسار المؤدي للمصالحة بين الشعب وأجهزة الدولة. وفي تصوّر منظومة العدالة الانتقالية، 78.5 بالمئة من التونسيين يعتبرون أن العدالة الانتقالية ضرورية في تونس مقابل 19.7 بالمئة، قالوا لا يعرفون مقابل 1.7بالمئة فقط قالوا إن العدالة الانتقالية غير ضرورية.
وفي علاقة بالانتظارات من العدالة الانتقالية، بسؤال العينة ماذا تنتظرون من العدالة الانتقالية، ذكر 76.8 بالمئة إنهم ينتظرون الحقيقة، وقال 44.1 بالمئة إنهم ينتظرون المحاسبة، 36.3بالمئة ينتظرون من العدالة الانتقالية جبر الضرر للضحايا، و34 بالمئة ينتظرون تحقيق المصالحة، و30.6 بالمئة ينتظرون ضمان عدم التكرار و20.9 بالمئة ينتظرون الاعتذار.
وبالسؤال عن المصير المناسب للمسؤولين عن الانتهاكات، قال 86.3 بالمئة من العيّنة إنه يجب مقاضاتهم وقال 24.3 بالمئة إنه يجب دفعهم للاعتراف بالمسؤولية وطلب العفو، فيما ذكر 22 بالمئة من العينة أنهم يرون أن المصير المناسب هو دفعهم لدفع تعويضات للضحايا، مقابل 8.8 بالمئة فقط يرون أن المصير المناسب للمسؤولين عن الانتهاكات هو العفو عنهم.
أخيرا في العلاقة بإصلاح المؤسسات،
-أكثر من 99 بالمئة من التونسيين يرون أنه من الضروري إصلاح المؤسسات في تونس.
-61.8 بالمئة يرون أن إصلاح المؤسسات ليس في تقدّم مقابل 38.2 بالمئة يرون غير ذلك.
-89 % من التونسيين يرون أنه يجب تقديم المسؤولين عن الانتهاكات إلى العدالة، فيما دعا 8 بالمئة فقط إلى العفو عنهم.
-أكثر من 90 بالمئة من التونسيين يرون أن المؤسسات الإدارية معنية بإصلاح المؤسسات و86.3 %بالمئة بخصوص المؤسسات الاقتصادية 83 بالمئة بخصوص المؤسسات الأمنية.
-51 بالمئة من التونسيين يرون أن جهود الدولة في مجال مكافحة الفساد هي متوسطة 35.6 بالمئة، يعتبرونها ضعيفة و13.2 بالمئة يعتبرونها جيدة.
-97.3 بالمئة من التونسيين يرون أن مكافحة الفساد هي أولوية في مجال مكافحة الفساد.
وهكذا فإن مشروع قانون "المصالحة" لا يلتقي مع كل هذه الانتظارات، بل سيكون عاملا لاحتقان حقيقي، إن لم ينفجر الآن فسينفجر في محطة أخرى في وجه الرباعي الحاكم الذي سيتورط في تمرير القانون، سواء بصيغته الحالية أوبصيغة أخرى معدلة ومخففة بعض الشيء.
ثالثا، وأخيرا الإيهام بأن القانون سـ"يحسن مناخ الأعمال" و"يساهم في عودة الثقة" لدى المستثمرين الأجانب في تونس. فهل يمكن لمن تورطوا في النهب والفساد إنقاذ الاقتصاد وتشجيع الاستثمار وخلق المناخ المناسب للأعمال؟ ليس بعض الثورجيين فحسب من يمكن أن يعترض على ذلك. تقرير البنك الدولي في مارس 2014 حول "رأسمالية المحاباة" في تونس، يفصل في دور هؤلاء وتأثيرهم الكارثي على الوضع الاقتصادي. يقول التقرير: "ونجد أن حجم تحكم الدولة في تونس في ظل حكم بن علي كان استثنائيا؛ فبنهاية عام 2010، كانت نحو 220 شركة متصلة ببن علي وعائلته الكبيرة تحقق نسبة مذهلة قدرها 21 بالمائة من أرباح القطاع الخاص سنويا في تونس (أي حوالي 233 مليون دولار أو أكثر من 0.5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي). ويعكس استحواذ 114 شخصا على هذه الحصة الكبيرة من عملية خلق الثروة في تونس مدى حجم الفساد المستشري، ويوضح كيف كان الفساد مرادفا للتهميش الاجتماعي". ويستخلص التقرير: "وتعكس هذه المشاكل بيئة المحسوبية واستخلاص الريع بدلا عن المنافسة والأداء اللذين يحددان النجاح الاقتصادي".
وبالنسبة لوضع البنوك وتأثير رأسمالية المحاباة على وضعها الراهن: "بلغ إجمالي ما قدمته البنوك التونسية من تمويل إلى الشركات المقرّبة من الرئيس السابق ما نسبته 2.5 بالمائة من إجمالي الناتج المحلي، (أو ما يقابل 5 بالمائة من مجموع التمويل الذي قدمه القطاع البنكي للاقتصاد).
وبالإضافة إلى ذلك، فإن حوالي 30 بالمائة من القروض قدمت دون ضمانات". "ويمثل هذا القصور في حوكمة البنوك السبب الجوهري في ارتفاع نسبة القروض المتعثرة التي تعاني منها البنوك، وتفيد الكثير من الشركات التونسية بوجود صعوبات جمة في الحصول على قروض من البنوك، ويحتوي قطاع السياحة على أكثر من 25 بالمائة من إجمالي القروض المتعثرة".