ظن مهند أن الورقة التي استلمها من المخابرات الجوية في دمشق، ضمن ما بات متعارفا عليه باسم "تسوية وضع"، قد تسهم في منع ملاحقته، لا سيما أنه بالفعل تمكن من مغادرة الأراضي السورية منذ عام ونصف، لكنه عاد إليها قبل أشهر، ليصبح مجهول المصير منذ ذلك الحين.
تبدأ قصة مهند من تظاهرات الميدان؛ حيث شارك الشاب بكل الأنشطة السلمية التي كانت تقام في الثورة السورية. وعلى أثر ذلك أصبح اسمه ضمن قوائم المطلوبين لدى النظام، وصار ملاحقا شأنه شأن الآلاف من أمثاله. ثم انضم إلى المكتب الطبي في حي القابون، نظرا لسيطرة الثوار حينها على الحي، حتى عقد حي القابون اتفاقا لوقف إطلاق النار، وهنا بدأ الكثيرون من المحاصرين يتخذون قرارا مصيريا، فإما البقاء في الحي مع منع خروجهم، وإما أن يقوموا بتسوية وضع، ليسمح لهم بالمغادرة.
وتسوية الوضع، هو إجراء يتم بعد أن يقرر الملاحق أمنيا عدم الاستمرار في أي نشاط ثوري، أو ما يسميه النظام السوري "أعمالا إرهابية"، ثم تقوم لجنة من الحي مفوضة من الأهالي بالتواصل مع أعوان النظام لتسوية وضعهم. وبناء عليه يقتاد هذا الشاب للتحقيق، ثم يعطى ورقة تقضي بأنه تاب عن الأعمال "الإرهابية"، وبموجبها يعفى من الملاحقة الأمنية.
وانتشرت هذه الحالة كثيرا في السنوات الأخيرة من الثورة، نظرا لعقد الكثير من المناطق الهدن مع نظام بشار الأسد، حوصر بموجبها آلاف الشباب المرابطين داخلها.
وبالفعل تقدم مهند بطلب للجنة الحي بأنه يريد أن يسوي وضعه ويسافر إلى عائلته في تركيا، حتى ذهب إلى فرع المخابرات الجوية برفقة أحد أعضاء لجنة الحي، ودخل إلى مكتب الضابط وتم سؤاله عن أمور من قبيل مشاركته بـ"الأعمال الإرهابية"، ومن كان يدعمهم، ومن أين يأتون بالسلاح، ومن هم أصدقاؤه الذين حملوا السلاح.
واستمر هذا التحقيق ما يقارب الساعتين، خرج بموجبها مهند بموعد آخر لتحقيق آخر بعد يومين، بعد أن اعترف أنه مغرر به وأنه لا يعرف أحدا، بل اقتصر عمله على إسعاف الجرحى إلى أي نقطة طبية، ولم يشارك بأي نشاط آخر.
عاد مهند بعد يومين لاستلام ورقة "تسوية وضع"، وبالفعل تنقل من خلالها على العديد من حواجز النظام وبكل يسر، حتى تمكن من السفر إلى تركيا، ومكث فيها ما يقارب السنة، لكنه آثر العودة إلى
سوريا، للاطمئنان على عمله ولإحضار بعض الأوراق اللازمة له، لكنه فوجئ بالمطار بأنه مطلوب، فأكد للضابط أنه قام بتسوية وضعه، وبعد مراجعات وأخذ ورد قيل له إن هناك تشابها بالأسماء، ليسمح له بالخروج.
تمكن من عبور أول نقطة خطرة، لكنه سرعان ما اعتقل على حاجز كان يتمركز على طريق مطار دمشق، ومنذ تلك اللحظة انقطعت أخباره، بحسب زوجته، التي قالت لـ"عربي21" إن جل ما عرفوه أنه موجود في الأمن العسكري، وباتوا يتعرضون لابتزاز مادي للإفراج عنه، حتى طلب منهم مبلغ 15 مليون ليرة سورية لقاء ذلك، وهو ما تعجز عائلته عن تأمينه له.
ليست حالة مهند هي الأولى، فالكثير من الشباب السوريين أبرموا تسويات مع النظام، ثم اعتقلوا بعدها، بل إن بعضهم تمت تصفيته تحت التعذيب في سجون المعتقلات أو على حواجز النظام.
وكانت الشبكة السورية لحقوق الإنسان قد أصدرت تقريرا في نهاية 2014 قالت فيه، إن نظام الأسد قد أخل بالتزاماته بالتسويات التي عقدها مع شباب في حمص، منهم مسلحون ونشطاء سلميون، فقتل بعضهم، بينما صار عدد آخر منهم في عداد المختفين قسريا. وقالت الشبكة إن النظام قدم للنشطاء وحاملي السلاح الذين يقدمون على التسوية مجموعة من الضمانات، تمثلت بإطلاق سراحهم بشكل مباشر بعد تسوية أوضاعهم، وعدم التعرض لهم أو لعائلاتهم، والسماح لهم بالعودة لحياتهم كما كانت قبل الثورة، لكن النظام، وبعد أن سلم ما بين 1000 و1100 شخص أنفسهم لـ"تسوية وضعهم"، قام باحتجازهم في مدرسة الأندلس الواقعة في حي الدبلان في مدينة حمص مدة ثلاثة أشهر، ثم قام فيما بعد بالإفراج فقط عن الفئة غير المرتبطة بأي نشاط ثوري.
وأوضحت الشبكة أن قوات النظام السوري قامت بنقل ما لا يقل عن 730 شخصا ما بين إعلاميين، وجنود منشقين، ومتخلفين عن الخدمة العسكرية، ومدنيين إلى أماكن لم تستطع الشبكة السورية لحقوق الإنسان معرفتها، وقد أصبحوا في عداد المختفين قسريا.