"الوجه الآخر للملائكية الألمانية..
(ملاحظة وتحذير: إن كان قلبك عزيزي القارى منفطرا -في اللحظة الراهنة- على مآلات الشعب السوري وأطفاله، فأنصحك بتأجيل قراءة هذا البوست حتى تهدأ!!!)
س: هل الألمان طيبون؟
ج: كغيرهم من البشر فيهم الطيب وفيهم الخبيث
س: هل يضيعون وقتهم أويهدرون مالهم بلا طائل خالصا لوجه الله أو لوجه الإنسانية؟
ج: ههههههههههه
"1 من 1000"
هذا هو اسم الحملة التي أطلقتها وزيرة الشؤون العائلية (نعم، في ألمانيا وزارة بهذا الاسم!) "مانويلا شفيزيج" عام 2014 بهدف إنقاذ 55 ألف طفل سوري من براثن الحرب الطاحنة هناك، وتوفير الرعاية والعناية لهم وسط الأسر الألمانية وبرعاية حكومية رسمية..
س: هل زاد الآن معيار "الملائكية الألمانية" في نظرك؟
انتظر قليلا.. "الشيطان" يكمن في التفاصيل!
دعني أعدد لك -عزيزي- تفاصيل الشيطان على شكل نقاط (جميعها مأخوذة حرفيا من الموقع الرسمي للحملة) ... (سأضع الروابط جميعها في نهاية البوست)
1-
هل صادفت عزيزي القارئ شيئا من هذا المقال في اليومين الأخيرين على صفحة صديق أو صفحة "فيسبوكية" عامة؟
هل خضت مع الآخرين في فحوى هذه الحركة الشيطانية الألمانية في تغريب/ تنصير/ سرقة أطفال اللاجئين الخارجين من أتون حرب لا ترحم؟
مرحبا بك إذا في مختبري الصغير، لقد كنت مثالا جيدا ومجتهدا لتجربتي الفيسبوكية المجنونة البالغة من العمر 24 ساعة فقط لا غير!
دعنا أولا نتعارف فيما بيننا، أنا شاب أردني مقيم في ألمانيا منذ ما يقارب الثلاث سنوات، طبيب وكاتب هاو -إن صح التعبير- يضع لفظ "الكتابة" في خانة الهوايات عند تدبيج سيرته الذاتية غير الممتلئة، رغم أن تجربته الكتابية لم تغادر جدران الـ"فيسبوك" إلا مرات قلائل، كما أن منشوراته الفيسبوكية لم تجاوز حاجز المائة إعجاب إلا منذ فترة قصيرة للغاية.
أن تعيش في ألمانيا وأن تخالط ناسها بحكم عملك الطبي، يعني أن تكون الأقرب ربما لحقيقة هذا الشعب المثير في تفاصيله، ألمانيا التي كانت محور أحداث العالم المعاصر في حربيه العالمييتين، والتي تشغل الدنيا في كل جانب وخبر حتى الآن، والتي أصبحت الشغل الشاغل للمجالس العربية مؤخرا –الفعلي منها والافتراضي- خاصة بعد موجة
اللجوء السورية الأخيرة وما رافقها من أحداث مثيرة ومؤلمة.
هذا يعني في الوقت ذاته أن تكون الأكثر تأثرا وانزعاجا بطيف الخرافات والقصص الملفقة عن ألمانيا ومستشارتها الاتحادية "أنجيلا ميركل"، والتي تملأ فضاء الـ"فيسبوك" بأكثر مما ينبغي لخرافة في عصر المعلومة السهلة والتقصي الأسهل عبر غوغل وأقربائه، قصص من الخيالية بمكان أنها ساوت بينها وبين شخصية النجاشي ملك الحبشة تارة، وجعلت منها البطلة الحامية لعرض العرب والمسلمين وأحلامهم بعد أن غدر بهم القريب والبعيد تارة أخرى.
لذا لمعت لي فكرة مجنونة لشائعة ضخمة تسير في الاتجاه المعاكس لخط سير الخرافات (التي باتت عند الكثيرين حقائق مسلّم بها)، يتم إطلاقها باحترافية بالغة ولمدة 24 ساعة فقط لا غير، ومن ثم مداهمة الجميع بنفيها المطلق، ومتابعة ردود أفعالهم المتخبطة، شيء أشبه بدرس قاس عن العالم الأزرق وطريقة التعامل مع نصوصه وأخباره التي لا يدقق فيها مدقق، ولا يتناولها محرّر بالنشر أو الحظر، أو أشبه بحكاية قصيرة عن الفوضى المعلوماتية التي باتت السمة الغالبة على عصرنا هذا.
حقيقة البوست:
في إحدى أيام ربيع العام 2014 استيقظ الألمان مذهولين على وقع صفحة إنترنتية ممهورة بالخاتم الرسمي لوزارة الشؤون العائلية، لحملة ضخمة تحت عنوان
"Kindertransporthilfe des Bundes"
أي "مساعدة نقل الأطفال في الاتحاد الألماني"، تهدف الحملة إلى إنقاذ 55 ألف طفل سوري من براثن الحرب الطاحنة هناك، وتوفير الرعاية والعناية لهم وسط الأسر الألمانية وبرعاية حكومية رسمية..
صفحة الحملة كانت من "الحقيقية" بمكان، أنها حملت توقيع وزيرة الشؤون العائلية "مانويلا شفيزيج" وصورها والخاتم الرسمي لوزارتها، ومن "الكاريكاتورية" بمكان أنها حملت صور الأطفال السوريين وهم يرفعون شعارات "شكرا ألمانيا"/"شكرا شفيزيج" بالإضافة إلى صورة الوزيرة نفسها مرفوعة بأيدي الأطفال وموضوعة بين ركام الحرب تتذيلها عبارة "منقذة حلب" (شيء أشبه بما يحدث بشكل اعتيادي في دول الزعامات المطلقة في العالم الثالث)..
لم تقتصر الحملة على نوايا ومخططات مجردة ولكنها احتوت على تفاصيل التفاصيل، أي: كيف تقدم على طلب احتضان طفل سوري، ومواصفات العائلة المحتضنة المطلوبة، ومواصفات الطفل السوري المسموح بها، وإجراءات الاستقدام و...الخ، مع أرقام الحملة وإيميلاتها وكيفية التواصل مع القائمين عليها.. الأمر الذي يكاد ينفي أي شك عن أن حملة كهذه لا بد وأن وراءها جيش من الموظفين الحكوميين الرسميين.. إذن فالحملة حقيقية تماما!
مباشرة فور شيوع الخبر المدوّي سارعت الوزارة الألمانية بنفي أي صلة لها بالحملة، ليتبدى للناس القائم الحقيقي على الصفحة..
Zentrum für Politische Schönheit
أي
مركز الجمال السياسي
وهي منظمة إنسانية تُعنى بتغليب المعاني الإنسانية على السياسية، خاصة في بؤر الصراع حول العالم ابتداء من البوسنة وانتهاء بسوريا، وتسعى للضغط بطرق فنية مبتكرة على صناع القرار الألمان لإحداث فرق إنساني في قراراتهم
هدف المنظمة من الحملة الوهمية كان إحراج الحكومة الألمانية والضغط عليها بهدف مد يد العون لعدد أكبر من اللاجئين السوريين الفارين من وجه الموت، وإرغام ألمانيا على قبول مزيد من اللاجئين بل وتخفيف وتيسير سبل إقامتهم .... والنتيجة الفورية كانت إعلانا رسميا ألمانيا بزيادة حقيقية لأعداد اللاجئين (الأطفال وأسرهم، لا الأطفال وحدهم )..
ونتيجة مؤجلة يمكن اقتفاء أثرها في كل قرار إيجابي ألماني تجاه اللاجئين حتى يومنا هذا ...
قصة البوست:
يوم الخميس وفور عودتي للمنزل من الدوام الطويل، استقبلتني زوجتي العزيزة بعيون دامعة طالبة مني أن أقبل عرضها بـ"
تبني طفل سوري"!!
دعكم من تفاصيل الصدمة التي عشتها وقتها، وتراكمات الأحزان على لاجئي
سوريا خصوصا بعد صورة الطفل الغريق الملقى على الشاطئ التركي ... مع تتبع الحكاية وجدت أن زوجتي علمت من إحدى جروبات الواتس أب بأن 400 طفل سوري يتيم في مدينة "هام" الألمانية على وشك التوزيع فعلا على الأسر الألمانية المتقدمة بطلبات للحضانة والتبني، الخبر يستند إلى موقع باللغة الهولندية (وفي النهاية هو خبر "فنكوش!")..
بعد بحث قصير على العم غوغل، اصطدمت كافة الكلمات المفتاحية لدى بالحملة الوهمية، والتي تكاد من فرط إتقانها وإتقان تفاصيلها -حتى الصغير منها- أن تقلب الشك فيها إلى إيمان مطلق.. لولا أني من المتابعين المجتهدين -للغاية- للأستاذ "عبده فايد" ... وهو -لمن لا يعرفه- أفضل من عرف ألمانيا من طائفتنا -نحن المهاجرين العرب- وكتب عنها وما زال يكتب ... كون الحملة قد تناولها عبده في عدد من بوستاته السابقة.
عندها تبدّى لي سؤال: ماذا لو تكررت اللعبة نفسها (لعبة الحملة الوهمية) داخل وسط عربي (وسط الـ"فيسبوك" مثلا)؟ وهل ينفع لذلك استخدام الأدوات ذاتها؟
نعم.. ولمَ لا.. ولكن مع قليل من التصرف
آثرت في البداية على أن لا أزوّر حرفا واحدا.. سأترجم الجمل والتفاصيل كما هي، ولكن.. بانتقائية عروبية مفرطة، تختار نقاط الصراع وحدها وتخرج بها إلى الحميّة العصبيّة العربية العمياء.. وكما قلت في البوست "الشيطان يكمن في التفاصيل".. فإني أعتقد بأن "شيطان الكتابة" (لا شيطان الشعر) قد ساعدني حقا في التقاط التفاصيل الموجعة من هنا وهناك!
تبقى العقية الأكبر في نجاح التجربة "عبده فايد" شخصيا..
لذا ترصدت تعليقه فور نشري للبوست، وفي دقائق معدودة كان فعلا هناك نافيا الأمر بصورة قاطعة، لأقوم بحذف تعليقه على الفور، والتفاهم معه شخصيا داخل عالم الإنبوكس لإمهالي بعض الوقت حتى "تكتمل أركان اللعبة".. لينقلب هذا التفاهم إلى دعم معنوي منه لي في هذا الأمر الجنوني البحت، على أن يتم الإفصاح عن حقيقته خلال 24 ساعة من نزول البوست.
حصاد البوست
تماما ككرة الثلج المتدحرجة من أعلى قمة جبلية لتكبر وتكبر وتهوي بسرعة جنونية، حصد البوست خلال 24 ساعة ما يقارب الألفين من اللايكات والألفين من الشيرات، عدا عمن قام بنسخه ولصقه مع ذكر مصدره أو مع كلمة "منقول" أو مع نسبته لنفسه المنتفخة العظيمة! ... وعدا عمن رآه مسلّمة لا شية فيها، فراح يدبّج البوستات تلو البوستات عن الموضوع وعن جوانبه المتعددة!
ملاحظات متفرقة على هامش التجربة
- هذا البوست وفر للقارئ العربي "منفذ أخلاقي" من تبعات أن "
الغرب الكافر" يدين بالإنسانية أكثر منه ... يعني أوصله لمرحلة من التوازن افتقدها عندما رأى الأوروبيين يرأفون ببني جلدته أكثر منه!
-لم يقتصر نشر البوست على أشخاص مغمورين أو على غير دراية بالبيئة الألمانية، بل جاوزهم إلى المقيمين في ألمانيا نفسها، وإلى شريحة واسعة من ذوي التخصصات العلمية المرموقة (نشر دون تثبت ودون طول عناية ومراجعة).
-التثبت من زيف الحملة ووهميتها كان أمرا ميسورا للغاية، فمن خلال رابط الحملة الذي وضعته أسفل البوست كان هناك عشرات من روابط الصحف والمجلات الألمانية التي تحدثت عن الحملة وأهدافها النبيلة رغم وهميتها، كما أن الإنترنت كان يعج بالكثير من الروابط والصفحات باللغات الألمانية والإنجليزية وحتى العربية المتحدثة عن حكاية الحملة، ولكن للأسف انتشر البوست كالنار في الهشيم ولم يراجعني بحقيقة الحملة سوى ثلاثة أشخاص فقط لا غير.
الناس عادة لا تصدّق إلا ما ترغب هي في تصديقه ... وفقط! لذا وحتى مع نشري للنفي لاحقا ظل كثيرون يحاججون بأن القصة حقيقية والمغزى صائب، وإن اختلفت بعض التفاصيل هنا أو هناك.
"الفيسبوك" مصدر مهم من مصادر انتفاخ الذات، وغرور النفس أمام تيار اللايكات والشيرات الجارف، والخيلاء وتصنع الأنفة والعظمة أمام حشود الجماهير والمريدين والتلاميذ المفترضين، لذا كان أصعب وأقسى المهاجمين علي في بوست النفي هم من مشاهير العالم الافتراضي، الذين أوقعهم الأمر في حرج بالغ أمام متابعيهم، بل أن بعضهم رفض إلغاء المنشور أو إعلان وهميته على صفحته حتى لحظة كتابة هذا المقال رغم قراءته للنفي وتعليقه الغاضب عليه!
هذا البوست وقد تم نفيه، لكن ما شأن آلاف البوستات الكاذبة والخرافية عن ألمانيا وغيرها، والتي لن ينفيها أصحابها وسينتفخون -نفخا وزهوا زائفا- بما يصلهم من الإعجابات والمشاركات عليها، بينما ما زالت حكاياتهم المكذوبة تنحدر على سفح الجهل والسذاجة ككرة الثلج المتعاظمة حتى تغدو مسلمات مطلقة ومحاور نقاش عند من وصلت إليهم وصدقوها؟
-وأخيرا، مأساة أطفال اللاجئين السوريين لم تنتهِ باكتشاف وهمية الحملة، الحرب الطاحنة البشعة المبتلعة لأرواح البشر وأجسادهم وأحلامهم، لا بد وأنها خلّفت جيشا عرمرمياّ من الأيتام والأطفال المشردين.. أتمنى في قرارة نفسي أن تكون هذه التجربة سببا في إلقاء شيء من الضوء على معاناتهم وحكاياتهم الأليمة.. شيء أشبه بما تفعله المنظمات الإنسانية في الغرب، إنما بمجهود شخصي بائس مني..