كتب ميرون رابوبورت: تصاعد العنف في
القدس قد يكون انعكاسا لمحاولة تقوم بها حكومة
نتنياهو لتغيير الوضع القائم في الحرم القدسي.
يتوفر لدى
إسرائيل عدد هائل من قوات الاحتياط على أهبة الاستعداد للانتشار في أوقات الحرب، وقد استخدمت إسرائيل هذه الأداة في أوج الأيام الساخنة أثناء الانتفاضة الثانية من عام 2000 إلى عام 2005، وكذلك أثناء الحرب في لبنان عام 2006 وأثناء الحملات العسكرية المختلفة على قطاع غزة.
ويوم الجمعة أجاز البرلمان الإسرائيلي (الكنيست) تجنيد عناصر من وحدات شرطة الحدود للتعامل مع العنف المتصاعد في القدس. الأعداد التي يجري تجنيدها أقل أهمية من الرسالة الموجهة إلى الإسرائيليين، ومفادها أننا "نواجه أزمة خطيرة في القدس".
ما من شك في أن الصدامات تكثفت في الأسبوع الماضي بين قوات الأمن الإسرائيلية والنشطاء الفلسطينيين داخل وحول مجمع المسجد
الأقصى وفي أماكن مختلفة أخرى من مدينة القدس. أخطر التطورات على الإطلاق كانت تلك التي حدثت عشية رأس السنة اليهودية الجديدة يوم الأحد الماضي، عندما توفي أحد السكان اليهود جراء سكتة قلبية بعد أن رجم فتيان فلسطينيون سيارته بالحجارة على الخط "الحدودي" غير المعلم الذي يفصل بين الأحياء اليهودية والأحياء الفلسطينية داخل القدس الشرقية المحتلة.
ولكن حتى هذه اللحظة لم تصل حدة الاشتباكات إلى الحجم الذي وصلته أثناء "الانتفاضة الصغيرة" التي اندلعت في شهر تموز/ يوليو من عام 2014، بعد أن أضرمت مجموعة من اليهود المتطرفين النيران بفتى فلسطيني من حي شعفاط وهو حي وأحرقوه حتى الموت.
قد يفسر الرد الإسرائيلي العنيف وقرار تجنيد احتياطيي الشرطة على أنهما استعراض للقوة، ولكن الأمر فوق كل اعتبار آخر، ذو علاقة بحقيقة أن جولة العنف الحالية تبدو كما لو أنها كانت معركة على الأقصى أو على جبل الهيكل كما يسميه اليهود. لا بد من الإشارة في هذا الصدد إلى أنه، وعلى مدى ما يقرب من مائة عام، كانت الاشتباكات العنيفة في هذا المكان الحساس دائما تولد العنف وتنشره في كل أرجاء إسرائيل/ فلسطين.
يحاول المسؤولون الإسرائيليون، مثل وزير الدفاع الداخلي جلعاد إردان، وضع الاشتباكات الحالية ضمن سياق الجهد المبذول لاستعادة الأمن في هذا المكان المقدس وللحفاظ على الوضع القائم فيه. ويجري تصوير النشطاء المسلمين المتواجدين على الجبل على أنهم هم مصدر العنف، وعلى أنهم هم الذين يضايقون "السياح" اليهود ويهاجمونهم رغم أن كل ما يريده هؤلاء هو زيارة جبل الهيكل، وعلى أنهم هم الذين يجمعون المعدات شبه العسكرية مثل الألعاب النارية ومسدسات طلقات الإنارة والعبوات المتفجرة محلية الصنع.
تناسب مثل هذه الرؤية متطلبات وسائل الإعلام الإسرائيلية والدوائر السياسية. فلقد دعا رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو إلى استخدام الشدة مع الفلسطينيين الذين يرمون الإسرائيليين بالحجارة، وحتى طالب المدعي العام بإصدار تفويض يسمح باستخدام القناصة ضد المتظاهرين الفلسطينيين في القدس.
أما وزير الدفاع الداخلي إردان فقد اقترح عدم ترقية القضاة الذين يصدرون أحكاما "مخففة" على الفلسطينيين الذين يدانون برمي الحجارة.
ولكن إسرائيل أبعد ما تكون عن البراءة في التصعيد الحالي حول الأقصى. فقبل شهر تقريبا أعلن وزير الدفاع إردان عن نيته حظر منظمتين فلسطينيتين، هما المرابطون والمرابطات، لأن أعضاءهما يتصدون لزوار جبل الهيكل من اليهود ويصيحون في وجوههم بهتاف "الله أكبر".
قبل أسبوعين أعيد فرض القيود على المصلين المسلمين – وهي القيود التي تحظر على الرجال والنساء دون سن معينة دخول المسجد الأقصى – وذلك بعد مرور عام كامل على إلغائها. يقول أفيف تاتارسكي، الباحث في إر أميم – وهي منظمة إسرائيلية يسارية تنشط في القدس، إن ذلك كان بالتأكيد قرارا سياسيا ولم يكن قرارا اتخذته الشرطة، ولا أدل على ذلك من أنه لم تجر أي اشتباكات ذات بال في المنطقة طوال الشهور التي كان مجمع الأقصى خلالها مفتوحا أمام جميع المسلمين.
قبل يوم واحد من رأس السنة اليهودية اقتحمت قوات الشرطة المجمع، وزعموا أنهم وجدوا عبوات ناسفة وغير ذلك من المواد التي أعدت للهجوم على الزوار والمصلين اليهود الذين كان من المفروض أن يأتوا للصلاة عند حائط المبكى، والذي يقع مباشرة تحت ساحة جبل الهيكل/ الأقصى.
قوبل هذا الهجوم بمقاومة عنيفة داخل المسجد الأقصى نفسه وأدى ذلك إلى اشتباكات مع الشرطة الإسرائيلية في كافة الأحياء المجاورة في القدس الشرقية. أما الحادث الذي توفي فيه أحد المقيمين اليهود بعد أن ألقي حجر على سيارته فوقع بعد ذلك بيوم.
وكما يعلم إردان وغيره من المسؤولين الإسرائيليين فإن الغالبية العظمى من اليهود الذين يزورون المجمع ليسوا سياحا أبرياء يرغبون فقط في التمتع بجمال العمارة الإسلامية العتيقة المقامة فوق الجبل، بل إنه يوجد من بينهم نشطاء سياسيون مثل وزير الزراعة يوري آرييل من حزب البيت اليهودي اليميني المتطرف، ويهودا غليك، الناشط في حزب الليكود الذي يزور المجمع يوميا تقريبا ويضغط على الحكومة حتى تضاعف من الوجود اليهودي في مجمع الأقصى.
يطالب غليك، الذي نجا من محاولة اغتيال العام الماضي على يد مسلح فلسطيني، بألا تقتصر حرية العبادة داخل الأقصى على المسلمين وإنما تتاح أيضاً لليهود، كما أنه لا يخفي هدفه النهائي، ألا وهو بناء المعبد (الهيكل) اليهودي على الجبل.
يؤثر غليك الغموض الشديد فيما يتعلق بمصير أماكن العبادة الإسلامية الموجودة حاليا، إلا أن آخرين غيره، مثل وزير الزراعة آرييل، عبروا عن أمانيهم بأن يروا قبة الصخرة تفكك والهيكل الثالث يبنى محلها.
وليس غريبا إذ ذاك أن يشعر الفلسطينيون بالقلق الشديد وأن يستفزوا حينما يرون "السياح" مثل آرييل أو غليك يتمشيان قريبا من هذه الأماكن.
بالطبع يبدو هذا الهدف مستحيل التحقق، ولذا قد ترضى إسرائيل بإنجاز أقل منه مثل تقسيم مناطق الزيارة أو حتى ساعات الصلاة في المنطقة بين اليهود والمسلمين.
النموذج الذي لا يبشر بخير في هذا الصدد هو قبر الآباء المؤسسين (المسجد الإبراهيمي) في الخليل، حيث فرض الجيش الإسرائيلي بالقوة تقسيم ذلك المكان المقدس بين المصلين المسلمين واليهود، وهذا ما أدى إلى مجزرة ارتكبها مسلح يهودي في عام 1994 راح ضحيتها 29 من المصلين المسلمين.
في تصريح لموقع "ميدل إيست آي" أدلت به في شهر تشرين الأول/ أكتوبر من عام 2014، قالت ميري ريغيف، وزيرة الثقافة الحالية – وكانت حينها رئيسة لجنة الشؤون الداخلية في الكنيسة ذات النفوذ الكبير، إنها كانت "تناضل من أجل أن يتمكن كل مواطن في إسرائيل – سواء كان مسلما أم مسيحيا أم يهوديا - من الصلاة فيما يعتبره مكانا مقدسا له. وليس معقولاً أن يتمتع المسلمون بحرية العبادة في جبل الهيكل بينما يحرم من ذلك اليهود". وادعت بأن الأمر في الخليل "يسير على خير ما يرام".
كان كل من إردان ونتنياهو قد تعهدا بأن يحافظا على الوضع القائم في الأقصى كما هو منذ أن احتلت إسرائيل القدس الشرقية عام 1967. ولكن، قد يخفي شعار"حرية العبادة" للجميع نفس ذلك الهدف الذي أشارت إليه ريغيف قبل شهور قليلة فقط.
وكما يلاحظ الباحث تاتارسكي، فقد يساعد العنف الذي يمارسه الفلسطينيون فوق جبل الهيكل ضد "الزوار" اليهود كلاً من إردان ونتنياهو على إظهار أن قرار تقسيم ساعات الزيارة والصلاة على جبل الهيكل بين اليهود والمسلمين بات أمراً لا مفر منه. وقد يكون منع المرابطين والمرابطات من دخول المسجد الأقصى والنية المبيتة في المستقبل لمنع المصلين المسلمين من البقاء أثناء الليل داخل مجمع المسجد هو جزء من هذه العملية. بل يتفاخر إردان بأنه منذ أن وقع تبني سياساته فقد زاد عدد اليهود الذين يزورون الجبل ستة أضعاف مقارنة بما كان عليه من قبل.
ولكن إسرائيل ستكون مضطرة ليس فقط للتعامل مع الفلسطينيين في ما يتعلق بالأقصى.. فبحسب معاهدة السلام بين إسرائيل والأردن، تحتفظ المملكة الهاشمية بوضع خاص داخل الأقصى، بل هي التي تدفع رواتب موظفي الأوقاف الإسلامية الذين تناط بهم مسؤولية إدارة المكان الذي يقع فيه الحرم الشريف أو جبل الهيكل.
في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي حينما وقعت اشتباكات مشابهة داخل الأقصى، استدعى عاهل الأردن الملك عبد الله، نتنياهو إلى عمان لتحذيره من عواقب تغيير الوضع القائم هناك. فما كان من نتنياهو في اليوم التالي إلا أن أمر بفتح بوابات الأقصى أمام جميع المصلين المسلمين ووضع قيودا على زيارات السياسيين الإسرائيليين إلى جبل الهيكل.
قد تكون الأمور الآن تغيرت، فحكومة نتنياهو التي تشكلت بعد الانتخابات في شهر آذار/ مارس تتكون فقط من الأحزاب اليمينية. ولعل هذا ما يفسر أن الوزراء الجدد، مثل ريغيف في وزارة الثقافة وآياليت شاكيد في وزارة العدل، يسعون إلى وضع معتقداتهم السياسية قيد التنفيذ.
تهدد ريغيف بحرمان المؤسسات الثقافية الناطقة باللغة العربية من التمويل الحكومي إذا رفضوا القبول بفكرة أن إسرائيل دولة يهودية. أما شاكيد فيريد تزعم هجوم على استقلالية المحكمة العليا الإسرائيلية. في مثل هذا المناخ يسهل على الوزير إردان تصور إحداث تغيير في الوضع القائم في الأقصى لصالح النشطاء السياسيين اليهود من أمثال غليك.
صحيح أن الاشتباكات التي اندلعت بعد الهجوم على الأقصى في وقت مبكر من الأسبوع الماضي سرعان ما انتقلت إلى القدس الشرقية، ولعلها مرشحة لمزيد من التصعيد، ولكنها لم تتجاوز القدس بعد إلى باقي الضفة الغربية. وحتى الهجوم الصاروخي من غزة على بلدة سديروت جنوب إسرائيل ليلة الجمعة، وهو الأول من نوعه الذي تتعرض له منطقة مأهولة بالسكان منذ عملية الجرف الواقي في الصيف لاماضي، فإنه يمكن أن يعتبر تصعيدا محدودا.
يعتقد تاتارسكي أنه، وكما حدث في تشرين الثاني/ نوفمبر من العام الماضي، فإن الضغط القادم من الأردن، حيث حذر الملك إسرائيل خلال لقائه برئيس الوزراء البريطاني دافيد كاميرون في وقت مبكر من هذا الأسبوع، من أن بلاده "لن يكون لديها خيار سوى اتخاذ إجراء" إذا ما تعدت إسرائيل على الوضع القائم في الأقصى، سيكون له تأثير على نتنياهو.
ربما. ولكن في ظل المزاج السائد حاليا داخل الحكومة الإسرائيلية، فقد تتجه الأمور في مسارات أخرى مختلفة. في هذه الحالة فإن تجنيد بعض عناصر الاحتياط في شرطة الحدود لن يغني ولن يسمن من جوع.
(عن "ميدل ايست آي"،ترجمة خاصة لـ"عربي21")