تتسارع الأحداث في
سوريا الحبيبة يوما بعد يوم، وها نحن أمام أزمة تكاد تشعل المنطقة، بل العالم كله، وذلك بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، ذلك الغزو الذي خلط أوارق الأزمة، وقلب الطاولة على الجميع.
لكي نستشرف مستقبل الصراع لا بد من محاولة مشاهدته من عدة زوايا، لا بد من تغيير الشرفة التي تطل منها على مشهد
الحرب.
سنبدأ من شرفة في أنقرة ... أنت الآن تحتسي فنجان قهوة تركية مع حكومة تعتبر سوريا (بحكم الجغرافيا أولا) أزمتها الأولى والأهم، والحكومة التركية الحالية لا يلجمها عن التصعيد العسكري سوى أنها في لحظة (انتخابية) شديدة الحساسية.
لو كسب حزب العدالة والتنمية معركة الانتخابات وتمكن من تشكيل حكومة منفردا، فسوف يكون التصعيد العسكري المباشر حلا مطروحا بشدة أمام صانع القرار التركي.
الأتراك يهمهم تحجيم إيران بعد أن ابتلعت العراق، وبعد أن تمكنت من استمالة الولايات المتحدة الأمريكية (أو تحييدها على الأقل) بالاتفاق النووي الأخير.
الحرب السورية تعني بالنسبة للأتراك مزيدا من اللاجئين، ومزيدا من الأعباء الاقتصادية والسياسية واللوجستية على الدولة، وتعني أخطارا حقيقية مباشرة على أمنها القومي.
الطيران الروسي ينتهك الأجواء التركية، وتركيا عضو في حلف شمال الأطلنطي (ناتو)، وقد أعلن الحلف عقب اجتماع طارئ بشأن الأزمة السورية، الاثنين 5 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 احتجاجه بقوة على هذه الانتهاكات للأجواء السيادية التركية وإدانته التوغلات والانتهاكات لأجواء الحلف الأطلسي"، ولوح بعد ذلك باتخاذ "إجراءات".
سيضطر الناتو لدعم تركيا لأن السكوت على التوسع الروسي بعد اختطاف جزيرة القرم أصبح مستحيلا، وإذا سكتت أوروبا وتركت تركيا وحدها فسوف يكون خطأ استراتيجيا فادحا ستندم عليه أوروبا طويلا.
سوف تتدخل تركيا بثقلها كله في سوريا، وستخسر علاقات تجارية ضخمة مع روسيا (روسيا ستخسر كذلك)، وستحاول تعويض سائر خسائرها من أوروبا، لا خيارات أخرى أمام الأتراك، الحل العسكري مطروح حتى إذا لم يفز حزب العدالة والتنمية بالأغلبية اللازمة، بمعنى آخر ... لن يوقف الحل العسكري وجود حكومة ائتلافية في أنقرة (الحل العسكري المباشر أو بالوكالة !).
أما إذا رأيت المشهد من شرفة في موسكو فستجد الأمر معكوسا تماما ... أنت الآن تشرب الفودكا مع "مَزَّةٍ" من الكافيار، مع رئيس مخمور بنصره في أوكرانيا، ويستغل تردد خصمه الأمريكي الذي فقد إحدى خصيتيه (وربما كلتيهما) في العراق !
الروس يملأون الفراغات، ويتعاملون بصلف شديد، لقد كان الاتحاد السوفيتي إمبراطورية ضخمة، كان جسدا يكسوه أطنان الشحم، أما روسيا الآن فقد أصبحت جسدا ممشوقا، وتخلصت من هذه الشحوم وتحولت إلى لاعب جمباز يقوم بحركات أكروباتية مربكة لسائر الخصوم، يتعمد الروس إهانة الأتراك، ينتهكون الأجواء التركية، يقصفون القرى التركمانية شمال اللاذقية، ويقصفون الكتائب السورية التركمانية التي سلحها الجيش التركي، وحين تحتج الخارجية التركية يعاودون القصف بعد الاحتجاج مباشرة !
الروس يحاولون التمدد في مناطق نفوذ جديدة، ويستغلون تراجع خصومهم، والمتغيرات الدولية الطارئة (مثل الانقلاب العسكري في
مصر)، ويقيمون تحالفات تخدم طموحاتهم، ولا يبالون بأي خرائط سابقة، أو بمناطق نفوذ الآخرين.
يرسلون رسائل واضحة للعالم كله، فيقصفون الداخل السوري بصواريخ بعيدة المدى من أسطولهم في بحر قزوين (هل من مبارز؟).
يفرضون رؤيتهم للصراع ... كل من يقاوم سفاح دمشق الأسد إرهابي، لذلك يقصفون فصائل المقاومة والجيش الحر أكثر مما يقصفون ما يسمى بداعش.
يعلمون جيدا وزن إسرائيل في المنطقة، ويعلمون قدرتها على تعطيل رد الفعل الأمريكي، لذلك ينسقون تحركاتهم مع إسرائيل، ومع حلفاء إسرائيل، وعلى هذا الأساس يمكنك فهم التنسيق الروسي المصري، مصر بالنسبة للروس جزء من التنسيق الروسي الإسرائيلي.
الآن ... سنرى المشهد من شرفة في طهران ... أنت الآن تتناول شايا مع سكر (القند)، وتجلس في مجلس الملالي الذين يشعرون بإنجازاتهم، ويحاولون تحقيق طموحات كبيرة لن تتحقق إلا ببقاء سوريا في الحظيرة الإيرانية.
هؤلاء على استعداد للعب بسائر الأوراق، فإذا كان انتصارهم سيأتي بورقة طائفية ... ستجدهم ينادون (يا لثارات الحسين)، وإذا تحقق النصر بورقة وطنية تحررية، سيهتفون (الموت لأمريكا)، وإذا تحقق بمصالحة دولية إقليمية سيقولون (سنفتح صفحة جديدة مع الجميع) !
الإيرانيون الآن في مرحلة من أقذر مراحل تاريخهم الحديث، لقد خلعوا سائر ما كان يسترهم، وبعد محور الممانعة أصبحوا أعضاء في محور احتلال سوريا جنبا إلى جنب مع إسرائيل، وافتضح ذلك بعد أن صرحت روسيا بأن تدخلها في سوريا كان بــ"موافقة إسرائيلية"، ومن أسوأ ما حدث أننا أصبحنا نرى حزب الله يحارب بالنيابة عن إسرائيل !
في هذه الأزمة ... أصبحت روسيا (الولي الفقيه) بالنسبة لإيران !
والسيد بوتين أصبح (الإمام العسكري) للإيرانيين، وأصبحت إسرائيل جزء من الحلف الذي يحاول أن يفعل المستحيل لكي يستمر جزار دمشق بشار الأسد في موقعه.
الإيرانيون لا مانع لديهم من تقسيم سوريا، ولا مانع لديهم من إشعال حرب طائفية في العالم الإسلامي كله !
سننتقل الآن إلى شرفة في الرياض ... أنت الآن في قيظ الصحراء، في حجرة فاخرة مكيفة، تشرب القهوة العربية بالهيل، تجلس في مجلس حرب، إنها غرفة العمليات التي تدير عاصفة الحزم في اليمن، يزداد الوضع تعقيدا، من بدأها ظنها نزهة ستنتهي خلال عدة أسابيع، وهاهي قد امتدت لعدة شهور، وأنهكت المملكة واقتصادها حتى اضطرت لسحب 70 مليارا من مدخراتها وأصولها في الخارج لتعويض عجز الميزانية.
السعوديون ورطوا أنفسهم في اليمن بأنفسهم !
هم من حضر عفريت علي عبدالله صالح والحوثيين، وها هم يحاولون صرف العفاريت التي حضروها !
السعوديون في اليمن يحاربون إيران، يحاولون تعويض سنوات السكوت على التمدد الإيراني في حدائقهم الخلفية، وفي باحاتهم الجانبية، حتى أصبحوا اليوم في مواجهة مع الإيرانيين في بهوهم الأمامي.
الإيرانيون لم يأتوا للمواجهة وحدهم، بل جاؤوا ومعهم اتفاق نووي حيدوا به الولايات المتحدة الأمريكية (حليف السعوديين الغادر)، ووضعوا في مقدمة المواجهة جيشا من أقوى جيوش العالم هو الجيش الروسي.
لا تملك السعودية خيارا سوى المواجهة، لذلك ستضطر إلى الدخول في تحالفات واسعة، عسكرية واقتصادية وسياسية، مع تركيا، وقطر، وباكستان، وسائر الدول "السنية" التي تستطيع أن تشاركها في هذه المواجهة.
كما ستضطر المملكة إلى مراجعة أسلوب تعاملها مع الجماعات الإسلامية الكبرى، مثل الإخوان المسلمين.
السعودية لا تملك إلا أن تحسم معركة اليمن سريعا، وأن تتفرغ تماما للكارثة السورية، أو أن تدير الأزمتين في وقت واحد.
السعوديون لا يراهنون على مصر حاليا، فهم يعلمون أن قائدها تحول إلى خصم صفيق، وقد أعلنها نظامه بكل وقاحة، وهو يقف بشكل واضح مع الاعتداء الروسي!
سوف تدفع السعودية عشرات المليارات لكل القوى الفاعلة على الأرض في سوريا لكي تقاوم الغزو الإيراني الروسي، ولكل الجيوش التي تقبل بالدخول معها في هذه المعركة، لأن المعركة على الأرض أكبر بكثير من قدرات المملكة العسكرية.
سنذهب الآن لنشاهد الحرب من شرفة في القاهرة، أنت الآن تشرب شايا بالنعناع، في كأس صنعت في الصين ... كل شيء في القاهرة اليوم مستورد، مصر لم يعد فيها شيء مصري.
أنت تجلس مع معتوه مكتمل العته، يصدق أنه فيلسوف الزمان وحكيم الدنيا، ولا يؤمن بأي شيء سوى بالقوة، ولا مشروع لديه سوى البطش، وهو ينظر للحياة كلها من منطلقين، الأول : إرضاء إسرائيل مهما كان الثمن.
والثاني : القضاء على الإسلاميين أيا كان شكلهم أو فكرهم.
مصر تتعامل مع سائر الملفات من وجهة نظر إسرائيلية، والنظام المصري لا يملك تحديد خياراته سوى بالرجوع إلى تل أبيب، لذلك إذا أردت أن تعرف حقيقة الموقف المصري فمن المفيد معرفة وجهة نظر إسرائيل في الموضوع (أي موضوع).
لذلك سنذهب إلى "تل أبيب" ونتأمل الصراع من شرفتها، أنت الآن تشرب الشاي بالميرمية (وهو مشروب فلسطيني سرقه الإسرائيليون كما سرقوا كل شيء) !
الإسرائيليون في الشأن السوري لهم هدفان ... الأول : إطالة أمد الصراع قدر الإمكان (لإنهاك سائر الأطراف) !
الثاني : تقسيم سوريا، على أن يظل السفاح الأسد رئيسا للجزء العلوي من سوريا، وعلى أن يظل الجزء السني من سوريا المقسمة ضعيفا، وتحت رحمة إسرائيل، وبعيدا عن فصائل المقاومة السنية الثورية.
إسرائيل تريد إجهاد الجميع دون أن تدفع دولارا واحدا، ودون أن ترهق جيشها بأي تدخل عسكري.
آخر شرفة يمكنك أن ترى منها الصراع هي شرفة في البيت الأبيض في واشنطون، الأمريكيون من مصلحتهم إنهاك روسيا دون أن يواجهوها، ودون أن يدفعوا ثمن مواجهتها من خزينتهم المفلسة.
الإدارة الأمريكية الحالية لا تستطيع أن تتخذ قرارا عسكريا في الموضوع، سوف يتم ترحيل الموضوع برمته إلى الإدارة اللاحقة، ومن يأتي بعد أوباما وإدارته سوف يقيم الموقف (حينئذ)، وبناء عليه سيقرر كيف يتعامل مع الأزمة، وإن كان الأرجح – في رأي كثيرين – هو تشجيع الآخرين على الغرق في المستنقع، كما حدث في ثمانينيات القرن الماضي في أفغانستان.
الأمريكان لن يمانعوا من تدخل تركيا عسكريا، ولن يمتعضوا من قيام حلف "سني" بقيادة السعودية، بل ربما يشجعون ذلك (بشروط).
إذن ... نحن أمام معسكرين، الأول حسم خياراته وقرر التدخل العسكري، وها هو يقصف سوريا، ويدافع عن الأسد، ويتحرش بالآخرين، والمعسكر الثاني ليس أمامه سوى خيارين لا ثالث لهما، الأول : الاشتباك المباشر، وهو أمر تكلفته باهظة، وخسائره كبيرة.
والحل الثاني : دعم حركات المقاومة الموجودة على الأرض بكل الطرق الممكنة، مع استخدام كافة كروت اللعبة لتفتيت المعسكر المضاد.
وهذا أمر تكلفته أقل بكثير، ومن الممكن أن يوقع هزيمة عسكرية ضخمة في المعسكر المعتدي، خصوصا لو وصلت مضادات الطائرات لتلك الحركات المقاومة، (لاحظ انتصارات الجيش السوري الحر مؤخرا).
صحيح أن هذا الحل قد يستغرق وقتا ... ولكن في النهاية لن يكلف عشر معشار ما يكلف خيار المواجهة المباشرة.
قد يبدو الروس أذكياء في تدخلهم في سوريا، وقد تبدو مكاسبهم كبيرة، ولكن الحقيقة أن هذا التدخل حماقة كبرى، سيدفع الروس ثمنها غاليا، وسيدفع كل من أيدهم ثمنا غاليا أيضا.
وقد تبدو تركيا في موقف ضعف ... ولكن الحقيقة أنها تملك أوراقا تلعب بها في الساحة السورية أكثر مما يملكه الروس.
كلمة أخيرة : تحية للثورة السورية العظيمة، ولثوار سوريا الأبرار، الذين يعمدون نضالهم بالدم والنار ... نهاية سعيكم وطن حر، ودولة عظيمة لكل السوريين، وما ذلك على الله ببعيد.