بمنطق "حنانيك بعض الشر أهون من بعض"، فإنني أتمنى لو أن الرئيس الأمريكي الحالي باراك
أوباما، بقي في منصبه لخمس أو عشر سنوات أخرى، ولو جعلني مستشارا له لفترة قصيرة، لشرحت له كيف يفعل ذلك بدلا من الحكم لولايتين فقط كما ينص الدستور الأمريكي الحالي، فهو القائد الأعلى للقوات المسلحة، وبإمكانه تحريك تلك القوات وإعلان حالة الطوارئ، ثم تعديل الدستور بحيث يصبح من حقه أن يحكم ثلاث ورباع.
وبكل ثقة أقول إنني صاحب خبرة في مجال التكتيك المتعلق بسلق
الانتخابات والاستفتاءات، بالممارسة وليس فقط كشاهد عيان، فخلال سنوات حكمه للسودان، ركبت الرئيس المشير جعفر نميري العفاريت، وقال: إما جعفر نميري أو
جعفر عباس في هذا البلد، وزج بي في السجن، ثم فصلني من عملي، ولكنني لم أكن له ضغينة، بل أسديت له خدمة جليلة في انتخابات الرئاسة.
كنت مدرسا في مدرسة الخرطوم بحري الثانوية، وتقرر تعطيل الدراسة لاستخدام المدارس كمراكز انتخابية، وتحويل عدد من المدرسين إلى ضباط انتخابات. ورغم أنني لم أكن ضمن أولئك الضباط، إلا أنني كنت أذهب إلى المدرسة يوميا، لأن اللجنة العليا للانتخابات كانت تزود مراكز الاقتراع المزعومة بوجبات من فئة النجوم الخمس، وهكذا كنت أحصل على حصتي من الدخل القومي طعاما، كنت أحسب قبلها أنه لا يوجد إلا في الجنة التي أعدت للمتقين، وأتسامر مع زملائي الذين لم يحس أحد بوجودهم.
وفي اليوم الثالث للاقتراع، دب الخوف في نفوس زملائي ضباط الانتخابات، لأن ورقة اقتراع واحدة لم تدخل صناديقهم: ماذا يفعلون ومن المفروض أن يفوز نميري بالنسبة العربية المعتادة، مع إضفاء بعض المصداقية على النتيجة، على الأقل بإجراء إحصاء ولو شكلي للأصوات؟
المهم: بوصفي خبيرا في شؤون السياسة العربية، طلبت منهم أن يتركوا أمر انتخاب الرجل رئيسا لي، ولم تكن في ذلك أدنى مشقة، فقد انتزع صاحبنا الرئاسة بدبابة، ولم يكن بحاجة إلى مصادقة من أحد ليبقى في منصبه. فأمسكت بأحد دفاتر أوراق الاقتراع، وملأت أوراقه بـ "نعم" ثم عبأت أوراق دفتر آخر بـ "لا" وكتبت بخط يدي عبارة "لاعم" أي كوكتيل من "نعم" و "لا" في مئات البطاقات، وبعد أن تعبت أصابعي من الكتابة كسرت قفل صندوق الاقتراع وحشوته بدفاتر كاملة الدسم أوراقها بيضاء.
ويا للسعادة! فاز نميري بمجموع يؤهله لدخول "الطب"، ونال زملائي مبالغ ضخمة كحوافز على اشتراكهم في الانتخابات، ولما طالبتهم بعمولتي قالوا: يكفيك الأكل المجاني الذي التهمته طوال أسبوع.
ولكنني أدين لنميري بعد الله، بالفضل، لأنه دفعني إلى الهجرة إلى خارج السودان، ففي فترة كان فيها وزير التربية غائبا، أصبح الرجل مسؤولا عن الوزارة، وفي أول يوم له فيها طلب من وكيل الوزارة إنهاء خدمات أي شخص اسمه جعفر، ولأن الوكيل كان بيروقراطيا بعقل حمار، فقد أصدر بيانا أنهى فيه خدماتي ومعي بضعة جعافر من بينهم جعفر نميري، وقبل أن ينتهي اليوم كان الوكيل معنا في كشف المطرودين من الخدمة، وقد فتحها الله عليه من يومها وأصبح تاجر أسماك، بينما عاش نميري عدة سنوات بعد إنهاء خدماته، عالة على دافع الضرائب السوداني.
وعلى أي حال، فمن حقنا نحن السودانيين أن نفخر بأننا البلد الوحيد في العالم العربي الذي كان فيه رئيس جمهورية محال على المعاش، لأن التقاليد العربية الأصيلة تقضي بإحالتهم إلى القبور بعد انتهاء أمد صلاحيتهم قسرا أو طوعا (الرئيس التونسي الأسبق، الحبيب بورقيبة حالة استثنائية، لأنه لم يكن في أعوامه الأخيرة في الحكم يعرف ما إذا كان هو رئيس جمهورية، أو رئيس نادي صفاقس. ولبنان أيضا استثناء، لأن السياسي اللبناني لا يفقد مسمى وظيفته بالموت أو التقاعد، ومن يقرأ صحف لبنان يعتقد أن في البلد أكثر من 27 رئيسا).
المهم، أنه أنهى نميري خدماتي كمدرس فتاب الله عليّ من مهنة يؤدي إدمانها إلى تسيب في المثانة، من فرط التفكير في بؤس الحال وسوء المآل وقلة المال والعيال. نعم فالتدريس لمدة طويلة يؤدي إلى العقم لأن غبار الطباشير يؤثر على الخصوبة. وهكذا أصبحت خبيرا أجنبيا في منطقة الخليج (هل فهمتم لماذا ألت وأعجن حول كوني نوبيا من الناحية الإثنية؟ كي يحق لي أن أزعم بأنني "أجنبي". أما لقب خبير، فقد أضفيته على نفسي عنوة واقتدارا لأن العرب لا يعتبرون من ينتمي إليهم بدرجة أو بأخرى خبيرا، حتى لو كان قادرا على أن "يجيب خبر" أي مهنة).
وهأنذا أقدم أوراق اعتمادي كخبير دولي في شؤون الحكم.