عقب حملة إعلامية غربية عربية قصيرة ومنسقة ضد التدخل الروسي تضمنت إصدار فتاوى دينية ودنيوية استذكرت مفردات الحرب الباردة وتوصيفات "إمبراطورية الشر" ورومنسيات "جحيم الروس"، واحتوت على توصيات استراتيجية ونصائح فقهية بمخاطر التدخل الروسي في
سوريا وأثره السلبي على مستقبل المسألة السورية والأوضاع الإقليمية والشؤون الدولية، سرعان ما توقفت الأوركسترا عن عزف سمفونية "السلام"، وشرعت بأداء سوناتا "الإرهاب"، ذلك أن بنيّة النظام الدولي المعولم ترتكز على ثيمة الإرهاب المؤرق لديانة الاستقرار، وهي ديانة حداثية لا يتضمن معجمها قيم العدالة والحرية التي تهدد أسواق الإمبريالية والفاشية والدكتاتورية.
لم تدم غفلة الولايات المتحدة والغرب والعرب فضلا عن إسرائيل طويلا لإدراك الفائدة الحيوية للتدخل الروسي في سوريا، ومنافعه الضرورية لحفظ الاستقرار في المنطقة، ولو جاء على أشلاء أكثر من (300) ألف سوري، ذلك أن ضحايا القتل الممنهج لا وجود لهم في سوق المصالح والمنافع، وإذا كانت أنظمة إمبريالية وأخرى دكتاتورية وثالثة طائفية تتدخل في سوريا على أسس جيوسياسية مصلحية، فلماذا لا تفعل
روسيا ذلك، وإذا كان التحالف الدولي لم يتمكن من تغيير قواعد اللعبة نظرا لغياب استراتيجية محددة تتوافق على أهداف واضحة تتعلق بمسقبل سوريا وتحديد ماهية الإرهاب، فلم لا تحاول روسيا إعادة ترتيب الأولويات الاستراتيجية، وتحديد المصالح الحيوية و ماهية الأخطار الكونية.
أحد أهم الفوائد العملية للتدخل الروسي في سوريا غربيا وعربيا، هي عملية "نزع الطائفية"، من خلال إعادة تعريف الصراع وموضعته داخل الإطار الجيو سياسي الاستراتيجي، وتخليصه من المجال الديني المذهبي، وهو المنظور الذي هيمن على مجريات الصراع في سياق الحرب الإقليمية الطائفية الباردة، والذي استثمره
تنظيم الدولة الإسلامية ببراعة فائقة، فلا عجب من إعجاب دول عربية عديدة بالنهج الروسي وتنسيقها معه، ذلك أن التدخل الروسي سوف يؤدي نظريا إلى تقلص النفوذ الإيراني ــ الشيعي، الذي بات عبئا على النظام السوري ووصل إلى طريق مسدود بعد أن استزف وعجز عن إحداث اختراق استراتيجي يحسم الصراع.
وإذا كان التحالف الدولي الغربي العربي ضد الدولة الإسلامية والقاعدة في بلاد الشام، يقع في سياق "حرب الإرهاب"، وهو مفهوم مفروص غير مفترض، ويحتمل كافة الفصائل "السنية" المقاتلة في العالم، بل وقد يشمل حركات سنية غير مقاتلة كجماعة الإخوان المسلمين، بل ويتضمن حركات وجماعات وفصائل وكتائب سنية مقاتلة غير مسيسة، وإذا كانت نتائج بحث قوات التحالف عن معتدلين في صفوف المعارضة السورية المسلحة بالمواصفات الغربية والعربية قاطعة بعدم وجودها، فلماذا لا تتدخل روسيا لقصف واستهداف الجميع دون مواربة، وإذا كان الجميع يقر بضرورة الحفاظ على النظام السوري ومؤسسات الدولة، وفي مقدمنها المؤسسة العسكرية والأمنيّة والتي باتت مهمتها الحصرية تتمثل بقتل السوريين، فلماذا لا يدعم الروس هذا النظام دون نفاق أو ملق، وأما الخلاف على شخص
الأسد فمسألة تستحق النظر.
إذن "رهاب الإرهاب"، بات العرض الدولي المزمن في سوريا وغيرها، وروسيا تدخلت تحت ذات الأسباب العالمية المعلنة، وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تدخلت خشية من ارتدادات "الإرهاب"، وتأثيراته على مصالحها الحيوية، وخوفا من أقل من (250) أمريكي التحقو بتنظيم الدولة الإسلامية، فإن روسيا تبحث عن مصالحها وتسعى إلى الحفاظ على أمنها، إذ لم يعد لها من نفوذ في المنطقة بعد خسارة ليبيا، وهي تعمل على الحيلولة دون خسارة آخر معاقلها في سوريا من خلال تأمين قاعدة طرطوس وإنشاء قاعدة جوية في اللاذقية، أما مسألة المقاتلين الأجانب، فإن تقديرات وكالة الأمن الروسية تشير إلى وجود (2500) مواطن روسي يقاتلون في صفوف تنظيم الدولة الإسلامية، ووجود أكثر من (4000) من مواطني الجمهوريات السوفيتية السابقة قد انضموا إلى تنظيم الدولة أو النصرة أو شكلوا وحدات مستقلة.
لقد كشفت اللقاءات العديدة بين الروس والأمريكيين عن بدء التعاون والتخلص من المخاوف، والتنسيق الطلعات الجوية خشية وقوع حوادث، كما أن الرئيس بوتين كان واضحا في حديثه مع الرئيس أوباما وفق المنطق الإرهابوي البراغماتي، فقد طلب منه أن يتحول عن مسار "الأسد يجب أن يتنحى" إلى طريق "علينا أن نعمل مع الأسد لهزيمة داعش"، تلك هي البراغماتية الفجة لروسيا مقابل البراغماتية الهشة لأمريكا، فلا عجب من إعجاب دكتاتوريات العرب بالمقاربة الروسية أكثر من المقاربة الأمريكية، فهي بالمنطق السلطوي حاسمة وغير مترددة.
المقاربة الروسية التي بدأت تثير إعجاب الدكتاتوريات العربية على الرغم من براغماتيتها الفجة الضارة على الشعوب طبعا، تتمثل بدعم النظام السوري للتخلص من كافة فصائل المعارضة السورية باعتبارها إرهابية أو في طريقها إلى الدخول في النادي الإرهابوي، فالسؤال الروسي لنادي التحالف العربي الغربي في غاية البساطة والصفاقة وفق مبدأ الثالث المرفوع الأرسطي، وهو: هل الرئيس السوري "بشار الأسد" ديكتاتور قاتل يشن حملة وحشية غير مبررة على شعبه من أجل البقاء في السلطة؟ والجواب بكل تأكيد هو: نعم، ثم هل سيكون الوضع أفضل حالا إذا كان أولئك الذين يلقبون أنفسهم بـ"الدولة الإسلامية" هم من يقيمون في دمشق بدلا منه؟، والجواب بالقطع، هو: لا، (ونعوذ بالله أو نعوذ بروسيا).
هكذا هي باتت خيارات الشعب السوري؛ بل وخيارات شعوب المنطقة بين الإمبريالية والفاشية والدكتاتورية، أما الديموقراطية فهي منتج لا يصلح للمستهلك العربي، وهي بضاعة سامة للأجساد والأرواح العربية الإسلامية السنيّة، كما أنها تهدد ديانة الاستقرار، فضلا عن كون قوى المعارضة السورية وكذلك العربية لا تتوافر على ميول ليبرالية ديموقراطية موالية للغرب، ولذلك فإن الخيارات في سوريا وفق المنطق الغربي والعربي والروسي تبدو جميعا سيئة، وفي هذه الحالة فإن قاعدة أخف الضررين تصبح مثالية، إذ منع حدوث الأسوأ أفضل من الأمل في مستقبل أفضل، وإذا كانت الآثار الجانبية السلبية للتدخل الروسي في سوريا، تتمثل ببقاء "الأسد" في السلطة، وتنامي دور روسيا في المنطقة، فإن المعادلة تصبح معقولة ومقبولة إذا قورنت بخطر إمكانية سيطرة تنظيم "الدولة الإسلامية" على دمشق وباقي الأراضي السورية وربما نمددها إلى بلدان مجاورة أخرى.
لا شك بأن الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا لا ترغب بزيادة النفوذ الروسي في المنطقة، إلا أنها مع ذلك سوف تبتهج بتحفظ وتخفي ترحيبها بالتدخل الروسي، فإذا تمكنت روسيا من القضاء على "الدولة الإسلامية"، فضلا عن النصرة وبقية الإرهابيين المفترضين، فتلك هي الغاية والمنى والرجا، وسوف يجنبها ذلك عبئا مركبا على الصعيدين الأخلاقي السياسي بالالتزام بعدم دعم نظام الأسد، وهي مسألة لا تشكل معضلة لروسيا، وإذا فشلت روسيا في تحقيق أي من أهدافها، فإن الغرب سيحملها نتيجة الفشل، وبالتأكيد سيشمت من تورطها ويفرض عليها مزيد من الضغوط في ملفات استراتيجية أخرى.
خلاصة القول لم يعد أحد في العالم يرغب بإسقاط الأسد، كما أن المسألة السورية باتت ثانوية، فتنظيم الدولة الإسلامية هو السؤال والمسألة، وإذا كان العالم قد احتفظ حتى وقت قريب ببعض الخلافات والاجتهادات في تدبير شؤون العالم العربي عقب ربيع ثوري قصير أجهض عبر المحطة السورية، فقد أصبح موحدا ضد الدولة الإسلامية التي تبسط سيطرتها على مساحات واسعة في العراق وسوريا بعد أن تمكنت من خلق فضاء جيوسياسي جديد على مخلفات الدولة المابعد كولينيالية مع اقتراب تداعي منظومة الدولة الوطنية في المنطقة التي لم تعد قادرة على الصمود بسبب مشاكلها البنيوية العميقة في عصر العولمة.