منذ أن طرح شكيب أرسلان سؤاله المركزي القلق "لماذا تأخر المسلمون وتقدم غيرهم"؟ والحديث ما زال جاريا عن الانبهار بتقدم الغرب، الذي أهله لتسيد المشهد الحضاري والمدني والتقني العالمي، وفي الوقت نفسه مازال البحث جاريا عن أسباب تأخر المسلمين وضعفهم وتخلفهم، وعدم مقدرتهم على اللحاق بركب المدنية والحضارة، وبقائهم كأمة مستهلكة لما تنتجه الأمم الأخرى.
سؤال
النهضة تولد بعد الاتصال بالغرب ومعاينة ما هو عليه من تقدم تقني صناعي هائل، ورقي في التدابير السياسية والقيم المدنية، والذي أحدث لرواد النهضة وفي مقدمتهم الأزهري رفاعة الطهطاوي، إمام البعثة التي أرسلها محمد علي إلى فرنسا سنة 1826 صدمة حضارية، نتيجة البون الشاسع بين الواقع المتخلف الذي جاء منه، والواقع المتقدم الذي وفد إليه.
تتبع الباحث السعودي، الدكتور
محمد الفقيه، في كتابه "
قراءة في خطاب النهضة.. إشكالات وتساؤلات" نشأة خطاب النهضة العربية ومساراته، مشخصا ومحللا أسباب قصور ذلك الخطاب عن الوفاء بمتطلبات إنتاج فكر نهضوي، يفي بمتطلبات إحداث نهضة إسلامية، واصفا خطاب النهضة بأنه أصبح "عبئا على النهضة أثقل كاهلها، وأعاقها عن التقدم، فهو أقرب شبها بالورم السرطاني الذي إن لم يقدم له الدواء المناسب، قضى على الجسد برمته".
في تقييمه الإجمالي لخطاب النهضة ومدى تأثيره في العالم الإسلامي، رأى الفقيه أنه "رغم انقضاء عقود طويلة على بدايات النهضة في العالم الإسلامي كانت كافية لإحداث تغييرات ملحوظة على مستويات عديدة، إلا أن الأسئلة التي طُرحت والمشكلات التي واجهتها، أو طرحت المشروعات لأجلها مازالت غضة طرية، كأنما ألقيت في هذه الساعة".
وصف الفقيه خطاب النهضة بعد دراسته المتأنية له، بأنه "في مجمله وغالب أحواله يشكل سجالا وجدالا لا يخرج عن دائرتين متحركتين تتصادمان وتتغالبان دون أدنى محاولة للتقارب والتقاطع. الدائرة الأولى: قد نسميها دائرة المحافظين أو حماة الهوية، والأخرى: من يطلقون على أنفسهم المستنيرين أو المنفتحين، حيث تدور المعارك دائما بين الانفتاح الكامل أو الانغلاق لكل جديد يطرح.."
توصيف الفقيه لحالة منتجي خطاب النهضة والقائمين عليه، دقيق جدا ويصف الحالة كما هي في واقعها، فموقف من أسماهم بالمحافظين أو حماة الهوية يتسم في غالبه بالرفض الكامل، وموقف المستنيرين أو المنفتحين يتسم بالقبول الكامل، لتشتعل بعدها المعارك والسجالات الساخنة بين الطرفين، ما ينسيهم أصل القضية، ويُشغل كل طرف بالرد على الطرف الآخر واتهامه، "وغالبا ما تكون التهمة الموجهة من قبل المنفتحين للمحافظين: هي التخلف والوقوف حجر عثرة أمام كل تطور وتحديث، وفي المقابل تكون تهمة المحافظين للمنفتحين: هي السعي لتحطيم الهوية والقضاء على الخصوصية وتغريب المجتمع".
ما الوصفة التي قدمها المؤلف للخروج من عبثية هذه السجالات التي لا تنتج إلا المزيد من التخلف والضعف والانشغال بالردود والاتهامات المتبادلة؟.
تحددت تلك الوصفة التي قدمها بنبذ مسلكي الرفض الكامل والقبول الكامل، والتوافق على "منهجية واضحة مؤصلة تكون ميزانا للقبول أو الرفض" وفي الوقت نفسه محاولة تجديد الخطاب والبحث عن مشكلاته الحقيقية ومفاصله المؤثرة، بعيدا عن السجال ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، وبدون ذلك "فلن يحقق خطاب النهضة إلا المزيد من السجال".
قد تتراءى هذه الرؤية بصياغتها النظرية الجميلة للناظرين، أنها قادرة على حل المعضلة بين المحافظين والمنفتحين، لكن بمجرد الانتقال إلى ميادين العمل وحقول التنفيذ، فإن النزعة الاتهامية الكامنة ستنفجر من جديد، لتعيد ذات السجالات الساخنة بعنفها وشدتها، بين دعاة المحافظة على الهوية والأصالة، وبين دعاة التطوير والتحديث والانخلاع من القديم.
قصور النظر في اختزال أسباب التخلف
يدور سؤال النهضة على قضيتين مركزيتين، الأولى تتمثل بالسؤال المستفز: لماذا تقدم الغرب؟ والثانية تتمحور حول السؤال الشائك العويص: لماذا تأخر المسلمون؟ فالمنفتحون والمستنيرون رأوا أن تقدم الغرب راجع إلى تحررهم من سلطان الكنيسة والدين، وتحرير عقولهم من أية سلطة إلا سلطة العقل ذاته، وهو ما حملهم على الدعوة لاستنساخ ذات التجربة في العالم الإسلامي، وهو ما يمثل جوهر دعاوى العلمانيين والليبراليين، وسائر التيارات الدنيوية الأخرى.
أما المحافظون وحماة الهوية، فرفضوا تلك الوصفة باعتبارها استنساخا لتجربة تخص المسيحية وتجربة الكنيسة في أوروبا التي تغولت على الحياة السياسية والاجتماعية بصورة سافرة، ما حمل الأوروبيين على التمرد عليها، والدعوة إلى فصل الدين عن السياسة والسلطة، وهو ما لا يتوافق مع الدين الإسلامي بأصوله ومبادئه، ليخلصوا إلى نتيجة مفادها عدم صلاحية النموذج الغربي للتطبيق في بيئة أخرى مغايرة لها في تاريخها وهويتها وثقافتها.
وهنا برزت الإشكالية الكبرى في تحديد علاقة المسلمين بالغرب، وماذا يمكن أخذه منهم وما الذي ينبغي رفضه؟ لتظهر إشكالية التحدي الحقيقي في تحديد الموقف من الغرب "فأوروبا أصبحت الخصم وهي في الوقت ذاته النموذج" على حد قول المفكر ألبرت حوراني، ولتثار إشكالية تحسين صورة العرب والمسلمين في عيون الغرب، إما بالتنازل عن بعض الثوابت أو تأويلها بما يتوافق مع العقلانية الغربية، أو بالرجوع إلى الذات والتمسك بالهوية.
وفيما يخص السؤال الثاني: فقد اختلفت الإجابات عنه، قصر المؤلف مناقشته لاثنتين منها: الأولى حصرت أسباب تخلف المسلمين وتأخرهم في الفهم الضيق والمنغلق للدين، وهو ما يستدعي القيام بعملية إصلاح ديني شاملة، وهو ما يمثل جوهر دعوة الشيخ محمد عبده، الذي دعا إلى الإصلاح الديني، بنبذ التقليد والعودة إلى الدين المنزل بأصوله الأولى، وتوسيع دائرة العقلانية والتعقل.
أما الإجابة الثانية فقد حصرت أسباب التخلف في الاستبداد السياسي، الذي هو سبب الأسباب، المعبر عنه في رؤية المفكر عبد الرحمن الكواكبي التي أودعها في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد"، فبحسب هذه الرؤية فإن الاستبداد السياسي هو الذي أنتج حالة التخلف والتأخر في العالم الإسلامي، كما يقطع بذلك الكواكبي الذي توصل لها بعد بحث دام ثلاثين عاما، وكل المشاكل الأخرى متولدة عنها، وفروع لها، ولا سبيل للخروج منها إلا بإشاعة الشورى السياسية وترسيخها.
أسهب المؤلف في مناقشة الإجابتين السابقتين، فالأولى حينما تحصر سبب تخلف المسلمين في فهمها المغلق للدين، فإنها تقلل من شأن الأسباب الأخرى وتهملها، ما حمل الشيخ محمد عبده على مهاجمة السياسة والدعوة إلى هجرها والابتعاد عنها، وينتقد المؤلف حصر أسباب التخلف بالاستبداد السياسي متسائلا: هل إذا زال الاستبداد سيتحقق التقدم المنشود؟
يخلص المؤلف إلى القول بأن "الاستبداد يُعد واحدا من أهم عوامل انحطاط الأمم وتخلفها، لكن هل هو الداء الأوحد أو الأكبر في مشكلات الأمة، وكلها تعود إليه وتتفرع منه؟ مقررا "أن أدواء الأمة أكثر من أن تختزل في داء واحد مهما كان خطيرا، ولا مانع أن يقدم الأخطر فالأخطر".
إشكالات وتساؤلات حول خطاب النهضة
تناول المؤلف جملة من الإشكالات والتساؤلات حول خطاب النهضة، فـ"من الأخطاء الكبرى التي أضرت بخطابات النهضة وتسببت في خلخلتها، انعدام النظريات والرؤى الكلية التي تنطلق منها الفروع الجزئية الصغرى. وقد "أخذت الحلول الجزئية مساحات كبيرة من أطروحات النهضة، وكأن البعض استسهل الحلول الجزئية أو ظنها أكثر إلحاحا من محاولة إيجاد رابط وناظم وأصل تطلق منه هذه الجزئيات وإليه تعود".
واعتبر الدكتور الفقيه أن "أحد أسباب نجاح التغريب وابتعاد الأجيال عن الدين وتعلقها بأهداب الغرب والشرق هو انعدام النظريات المستقاة من الدين المتوافقة مع متطلبات العصر، مع أن المسلمين فيما مضى واجهوا تحديات فكرية.." واستطاعوا إيجاد حلول مناسبة لها.
من أبرز الإشكالات التي غالبا ما تثور في مشاريع النهضة وخطاباتها، تلك المناقشات الساخنة حول جدلية النهضة والهوية، وقد أثار المؤلف جملة من الأسئلة القلقة التي تتطلب إجابات عميقة ومقنعة، "وهنا يحق لنا أن نتساءل: هل الخصومة حقيقية أم متوهمة؟ وهل هويتنا بخصوصها مضادة للنهضة؟ أم أن النهضة بطبيعتها مضادة لكل هوية؟ أم أن العيب ليس هذا ولا ذاك، إنما هو في انعدام التوازن بينهما؟ وما الثابت وما المتغير وما الذي يقبل التغيير، وما الذي لا يقبله؟
ووفقا للمؤلف فإن ثمة "تساؤلات كثيرة حول هذه الإشكالية، أو الخصومة، ولا يبدو في الأفق إشارة تصالح ما دمنا نسير في نفس الطريق، ونتعامل بالأسلوب ذاته"، وبالتالي "فإذا لم تحل إشكالية الهوية والنهضة فلا مطمع في بقاء هوية ولا بناء نهضة".
إنجاز مشاريع النهضة، يتطلب في مرحلته الأولى صياغة خطاب يفي بمتطلبات النهضة من كافة جوانبها المختلفة، والتي منها دراسة طبيعة المجتمعات العربية والإسلامية، لاجتراح نموذج يناسبها ويلائمها، بعيدا عن دعاوى استنساخ نماذج أخرى بكاملها، واستنباتها في عالمنا الإسلامي، وبتجاوز هواجس المحافظين وحراس الهوية الذين يستسهلون الأخذ بمعطيات المدنية الغربية الحديثة في جانبها التقني والصناعي، مع رفض أفكاره الفلسفية ورؤاه في مختلف الحقول الإنسانية والاجتماعية، وهو ما كرس التأخر، وجذر التخلف في العالم الإسلامي.