كتب عمرو حمزاوي: ستتعالى صيحات طيور ظلام الاستبداد والسلطوية في بلاد العرب مرددة على مسامعكم خاب أملكم في الحرية التي طالبتم بها وفي الكرامة الإنسانية التي بحثتم عنها وفي المشاركة في اختيار من يحكمون باسمكم ومراقبتهم ومحاسبتهم التي توهمتم قرب استحالتها واقعا، والأفضل لكم الانسحاب من المجال العام الذي سرتم وتظاهرتم واعتصمتم به وتواجد به بعضكم كناخبات وناخبين ظنا أن انتخابات عربية قد تغير هوية الحكام وحقائق توزيع الثروة وعبثا ظننتم، انسحبوا وعودوا إلى انتظار شيء من الأمن أو الكثير منه وتوقعوا شيئا من الخبز أو الكثير منه ودعونا نباعد بينكم وبين مصائر الانهيار أو ننقذكم منها. لا تصدقوهم.
على نحو يومي، سيوقظكم خدمة السلطان في بلاد العرب مزيفين لوعيكم بمقولات استنكارية من شاكلة «فشل ربيعكم»، «ربيعكم لم يكن إلا خريفا للقتل والإرهاب والعنف»، «أنتم لا تمتلكون الجهوزية للديمقراطية التي أقنعكم إما حالم أو متآمر بإمكانية تطبيقها في بلادنا»، «انظروا إلى حالكم في العراق وسوريا واليمن وليبيا بعد الأحداث التي أسميتموها تحولات ديمقراطية أو انتفاضات شعبية، وتمنوا أن لا تصبحوا كالبلدان الثلاثة»، «ألم يكن قليل الأمن والخبز أو كثيره أفضل لكم من الدماء والخراب والتهجير والارتحال واعتياد حياة اللجوء والمنافي التي تزجون إليها دون توقف، ألم يكن اعتيادكم السلطان وقمعه وأدوات الحماية التقليدية من مظالمه التي توفرت لبعضكم أرحم لكم من الانفجارات والانهيارات الراهنة؟»، «تتمردون على الاستبداد في الخليج وعلى التمييز الطائفي في بعضه وعلى
الطائفية في المشرق وعلى سطوة المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية على الحكم في مصر وعلى حكم الفرد وحروبه الداخلية المستمرة في السودان، ألم نعش جميعا طويلا مع هذا الواقع وعرفناه وخبرنا دروبه وأيقنا انتفاء قدرتنا على الخروج منه؟»، «لماذا نسيتم تواريخنا القديمة والمعاصرة؟»؛ إلى آخر هذه المقولات ذات الوجهة الوحيدة، الاستكانة للاستبداد والسلطوية. لا تصدقوهم.
ستشوه نخب ادعاء المعرفة والعلم والخبرة، ومنظومات الاستبداد والسلطوية منحتها السيطرة على المساحات الصحافية والفضاءات الإعلامية الممولة حكوميا أو الممولة من مصالح خاصة متحالفة مع الحكام ومكنت من تغييب العقل واغتيال المعلومات والحقائق، ذاكرتكم الجمعية بحيث تصير مسيراتكم وتظاهراتكم واعتصاماتكم السلمية التي واجهتم بها آلات القتل الرسمية زيفا أعمال عنف نفذها متآمرون ومجرمون وخارجون على القانون، وتبرئ عبثا ساحة المستبدين وأعوانهم من مسؤوليتهم المؤكدة عن الإرهاب والعنف بعد أن ساموا مجتمعاتنا سوء عذاب القمع والظلم والاضطهاد والتعقب والتمييز وفرضوا عليها أيضا إما كوارث الفقر والجهل والتطرف (عموم المشرق العربي ودول شمال إفريقيا العربية) أو تركيز الثروة في يد القلة الحاكمة ـ المالكة وتجذير التفاوتات في الدخول وفرص العمل وإمكانيات الترقي المجتمعي على الرغم من نجاحات بعض عمليات التنمية البشرية المستدامة (بلدان الخليج)، وتتجاهل التداعيات السلبية لبعض الظواهر المشكلة لتواريخنا القديمة والمعاصرة من سيادة قانون لم يؤسس لها في أطر مستقلة ومستقرة وعجزت باستمرار عن تقديم ضمانات عادلة لحقوق وحريات الناس ولملكيتهم الخاصة وأخفقت في مناهضة التمييز إن بسبب النوع أو الدين أو المذهب أو العرق إلى تكالب المؤسسات العسكرية والأجهزة الأمنية والاستخباراتية على مجال حياتنا الخاص تنصتا وتجسسا وتعقبا وعلى أدوارنا في المجال العام تهديدا وترويعا ومنعا ومنحا، وتنسيكم أن قليل الخبز الذي لم يتوفر سواه في أغلبية بلدان العرب قابله عظيم الفساد في الدواوين الحكومية وفي القطاع الخاص وفي شبكات الريع الواصلة بين الطرفين وأن قليل الأمن الذي لم يضمن ما يتجاوزه في أغلبية بلاد العرب قابله تراكم للمظالم والانتهاكات حال عدم الامتثال لإرادة المستبدين والسلطويين واضطهاد ممنهج للمجموعات السكانية التي لم يرغب بها رسميا إن بسبب هوية طائفية أو مذهبية أو عرقية. لا تصدقوهم.
ستخرج عليكم منظومات الاستبداد والسلطوية المستتبعين من الكتاب والأساتذة الأكاديميين والباحثين الذين قبلوا مقايضة فاوستية من نوع آخر وعلى نحو دائم، تعطيل العقل والضمير نظير حماية المصالح وضمانات النفوذ، ليروجوا لصنوف من الأوهام لكي ترضوا بغياب العدل وانتهاكات الحقوق والحريات واستثنائنا كعرب من التحولات
الديمقراطية التي مازالت تجتاح عالمنا المعاصر (على الرغم من بعض التراجع هنا والتعثر هناك) كقدر عربي لا فكاك منه؛ تارة زعما أن عناصر كضعف مؤشرات التنمية البشرية وذيوع الفقر والجهل في بلادنا شأنه شأن محدودية المجتمعات المدنية وهامشية الحركات السياسية وشأن هشاشة الطبقات الوسطى تحول بيننا وبين الطلب الناجح للديمقراطية..
وتارة ثانية توظيفا لصراعات الهويات الدينية والمذهبية والعرقية وللتمايزات الطائفية للدفع الزائف بعدم واقعية انتظار تحرك المجتمعات الخليجية صاحبة مؤشرات التنمية البشرية الإيجابية باتجاه سيادة للقانون وتداول للسلطة ومشاركة للناس في إدارة الشؤون العامة وفقا لقاعدة الاختيار الحر..
وتارة ثالثة وفقا لادعاء متهافت مؤداه انتفاء رغبة العرب في الحكم الديمقراطي إن لغلبة القيم الدينية على تلك المدنية أو لتفضيلات اقتصادية واجتماعية محافظة تتخوف دائما من التغيير. وتهمش منظومات الاستبداد والسلطوية هنا ويهمش مستتبعوها عمدا أن ضعف مؤشرات التنمية البشرية في عموم المشرق والمغرب العربي يمثل نتيجة لغياب الديمقراطية وليس سببا له، وأن حقائق الفقر والجهل وهشاشة الطبقات الوسطى لم تمنع دون تبلور تجارب ديمقراطية في بعض البلدان التي تتشابه أوضاعها مع أوضاعنا، وأن واقع صراعات الهوية والتمايزات الطائفية هو حصاد عصف المستبدين بمواطنة الحقوق والحريات المتساوية ونتاج ممارسات الاضطهاد باتجاه المجموعات السكانية المصنفة كأقليات أو طوائف ومذاهب غير مرغوب فيها، وأن التحولات الديمقراطية تحدث أيضا في مجتمعات محافظة وقبلية وتمكنها من إعادة تعريف العلاقة بين الديني والمدني على نحو يمنع طغيان الأول على إدارة الشأن العام ويربط بين الثاني وبين مفهومي المواطنة وحيادية الدولة بمؤسساتها وأجهزتها العامة وبيروقراطيتها إزاء الانتماءات الدينية والمذهبية للمواطنين تماما كما تمكن التحولات الديمقراطية المجتمعات الباحثة عن الخروج من أسر الحكم العسكري من إعادة تعريف العلاقة بين العسكري والمدني على نحو يخضع الأول لرقابة المدنيين المنتخبين ويغل يد مؤسساته النظامية عن التدخل في شؤون الحكم ويلزم ممثلي الثاني بالتعاطي مع المؤسسات العسكرية النظامية بصورة احترافية لا تسييس بها ونقاط ارتكازها هي حماية البلاد وأمنها القومي. لا تصدقوهم.
سينشط خدمة السلطويات البديلة في الانتظار، خدمة سلطويات اليمين الديني المصرة على ادعاء احتكار الحقيقة المطلقة وسلطويات الطائفية المعكوسة التي تتورط بها قيادات بعض الأقليات الدينية والمذهبية والعرقية بعد عقود التهميش الطويلة وسلطويات نخب الحكم القديمة التي يدفعها مرض عضال اسمه «هذه البلاد لنا حكمها» إلى محاولات متكررة للاستئثار بالسلطة وسلطويات نخب جديدة لا تحمل للقيم والإجراءات الديمقراطية غير الريبة وليس لها من هدف غير الانقضاض الفردي على الحكم؛ سينشطون جميعا لإقناعكم بكونهم المناوئين الوحيدين للمستبدين الحاليين وبقدرتهم على الإتيان بحلول سحرية لأزمات مجتمعاتنا الاقتصادية والاجتماعية وقد يعدونكم تحولات ديمقراطية قادمة وشراكة جادة مع المواطن وقبول لمبادئ سيادة القانون وتداول السلطة والشفافية والمحاسبة.
سينشطون لإقناعكم بذلك، بينما بعضهم يعمل على تجريد قوى ديمقراطية حقيقية من المصداقية بادعاء تنصلها من الدفاع عن الحقوق والحريات والمقاومة السلمية للطغيان، وبعضهم الآخر يروم بطائفيته المعكوسة تفجير بلادنا عبر حروب الكل ضد الكل الدينية أو المذهبية أو العرقية أو القبلية، وبعضهم يتحالف مع منظومات الاستبداد والسلطوية الراهنة للوصول إلى اقتسام للثروة والنفوذ وشراكة بينهم في الحكم لا شأن لها بالمواطن ولا محتوى ديمقراطي لها. لا تصدقوهم.
لا تصدقوهم، فإلى هذا الزيف تستند الثورات المضادة التي ترتع اليوم في بلاد العرب. لا تصدقوهم، فالانصراف عن زيفهم هو خطوة المقاومة الأولى.
(عن صحيفة القدس العربي اللندنية- 3 تشرين الثاني/ نوفمبر 2015)