شهدت مدينتا بيروت والإسكندرية في الأيام القليلة الماضية انعقاد مؤتمرين حول الأوضاع في العالم العربي، الأول انعقد في بيروت بدعوة من مركز دراسات الوحدة العربية وبالتعاون مع المعهد السويدي في مدينة الإسكندرية تحت عنوان "مستقبل التغيير في الوطن العربي" وشارك فيه عشرات الباحثين العرب، الذين عرضوا لمشاكل الإصلاح والتغيير في الدول العربية وكيفية الخروج من المأزق الراهن ومواجهة التطرف وعمليات التفكيك والتقسيم والعمل من أجل إصلاح الأنظمة العربية. والندوة الثانية انعقدت في مدينة الإسكندرية بدعوة من مكتبتها العامة وشارك فيها عشرات الباحثين والمفكرين والإعلاميين العرب تحت عنوان "الثقافة العربية، استحقاقات مستقبل حائر".
والملاحظ أن المشاركين في الندوتين قد عادوا لطرح الأسئلة العربية والإسلامية المطروحة منذ حوالي المائة عام إن لم يكن أكثر، أي منذ انتهاء الخلافة العثمانية وسيطرة الدول الكبرى على بلادنا وقيام الكيان الصهيوني وحتى يومنا الحاضر.
وقد قال الدكتور خير الدين حسيب المشرف العام على مركز دراسات الوحدة العربية في ختام ندوة بيروت حول التغيير: بأنه لا يمكن بحث الواقع العربي الراهن ومستقبله بمعزل عن التطورات الحاصلة والمتوقعة في النظام الدولي. فهذا الأخير، بما فيه مجلس الأمن والأمم المتحدة عموما ما عاد يخضع لهيمنة أو توجيه قوة كبرى بعينها. وفي هذا السياق لم يعد ممكنا استعمال ما يسمى "القوة الخشنة" وأصبح اللجوء المتزايد إلى استخدام ما يسمى "بالقوة الناعمة"، وانطلاقا من هذه المعادلة الجديدة تبرز خطة طريق روسية تتمثل بوضع مسائل الحرب والسلم في عهدة القانون الدولي والتحذير من إخطار الهيمنة على التوازن الدولي والاقتصاد واعتماد الحلول السلمية واحتواء الخلافات الطائفية والإثنية المتفجرة حاليا في الشرق الأوسط ووقف الألعاب المزدوجة مثل محاربة
الإرهاب من جهة وتمويله من جهة أخرى.
ويؤكد د. خير الدين حسيب أن العمل خارج هذا النظام الدولي يضعنا في غابة الغلبة فيها للأقوياء، ثم يعرض لمأزق العرب الراهن بممهداته ومحطاته منذ الحرب الأولى مرورا بالاستقلالات العربية وقيام مجلس التعاون الخليجي ومرحلة "الثورة بدون ثورة"، أي فترة الخمسينيات والستينيات (23 يوليو 1952، ثورة يوليو في العراق)، ثم مرحلة السبعينيات التي وقعت فيها اتفاقية "كامب ديفيد" وتجميد عضوية مصر في جامعة الدول العربية.. والحرب العراقية – الإيرانية وغزو الكويت، ومصائب "
الربيع العربي".
وبعد عرض عام لما قام به مركز دراسات الوحدة العربية منذ عقود، أي بما يتعلق بـِ "معطيات استشراف المستقبل العربي..." يصل د. حسيب إلى تأكيد العمل على النقاط الآتية:
- النظام الإقليمي العربي وضرورة تفعيله لأن خروج العديد من الأنظمة العربية عن ميثاق الجامعة العربية وعدم التزامها به لم تحقق فيها طموحاتها غير المشروعة، كما أن استمرار بعض الدول العربية في سياساتها الحالية ستنتهي بها جميعا إلى صيغة خاسر/خاسر. وفي هذا الإطار أيضا يطرح د. خير الدين حسيب مسائل "استعادة دور مصري فاعل في النظام الإقليمي العربي"، وتعاون وتقيد الدول الأعضاء في الجامعة العربية على ما توقعه من اتفاقيات، وتفعيل جامعة الدول العربية وتعديل ميثاقها وتعديل نظام التصويت فيها وإنشاء محكمة عدل عربية، ومواجهة قضية الارتفاع الكبير في نسبة العمالة الأجنبية في معظم دول الخليج العربي مما قد يهدد هويتها العربية مستقبلا.
- "الأمن القومي العربي" حيث انه ليس باستطاعة أي قطر عربي أو مجموعة أقطار فيه وبخاصة بلدان الخليج العربي أن تحقق أمنها الوطني إلا من خلال الأمن القومي العربي ويعتقد د. حسيب أنه يجب النظر إلى إيران، وبغض النظر عن موقفها خلال الاحتلال الأميركي للعراق إلى أنها "عمق استراتيجي إسلامي للأمة العربية"، وأنه يجب التعامل معها على أساس أنها "صديق محتمل وليس عدوا محتملا".
هذه الخلاصات التي قدمها الدكتور خير الدين حسيب حول المأزق العربي لا تختلف كثيرا عما أشار إليه الباحثون المشاركون في ندوة مكتبة الإسكندرية، فيما يتعلق بالمأزق الذي يواجهه العالم العربي اليوم بسبب فشل الدولة القطرية واستمرار الصراع حول العلاقة بين الدين والدولة وكيفية الخروج من الأزمة القائمة لا سيما بعد التطورات الحاصة منذ الربيع العربي.
وهكذا يعود المثقفون والمفكرون العرب لطرح الأسئلة نفسها والإشكالات نفسها منذ مائة عام، ولكن هل هناك أجوبة جديدة أم سنكرر أطروحاتنا القديمة للحل أيضا وندور في الدائرة نفسها؟