رضخ المؤتمر الوطني العام لحملة "لا للتمديد" وفسح المجال لانتقال السلطة العليا عبر انتخاب برلمان جديد هو المعترف به دوليا حتى الآن. لكن تجربة البرلمان لم تكن على الإطلاق أفضل من المؤتمر الوطني العام، ولو تتبعت سقطات المؤتمر لوجدتها تكررت بعينها بل وبدرجة أكثر سوءا.
بل إن العديد من أنصار الانتقال من المؤتمر إلى البرلمان، يتصدرون قائمة المنددين بالأخير والكاشفين لعواره، حتى أصبح هزال البرلمان غير خاف على أحد.
يأتي في مقدمة أخطاء الجسمين التشريعيين عدم تقديرهما لطبيعة الانتقال الذي حدث في
ليبيا، يتساوى في ذلك الجسم والأعضاء، بمعنى عدم وعي المؤتمر والبرلمان كجسم تشريعي أو كأعضاء مسؤولين عن مواقفهم وممارساتهم بمنطق ومتطلبات مرحلة الاستقرار بكل ما تعنيه الكلمة من مضمون، فقد كان الأداء المؤسسي والفردي غير منسجم، بل بعيد تماما عن استحقاقات الظرف السياسي والاقتصادي والاجتماعي الذي مرت به البلاد، ولو سألت أي مواطن بسيط في غرب البلاد وشرقها وجنوبها: لماذا في رأيك يستمر وجود جسمين تشريعيين برغم انتهاء أجلهما؟ لأجاب: هي آلاف الدنانير التي يتاقضاها الأعضاء كمرتب شهري. وبغض النظر عن صواب موقف الشارع من عدمه، يظل هو الرأي الشائع.
استوقفني وصف حال البرلمان اليوم، ما كتبه أديب وقاص مميز من الشرق الليبي بقوله إن البرلمان أشبه بـ "دولاب مهنَّى"، وهو الاسم الذي يطلقه الليبيون - خاصة في شرق البلاد - على خزانة الملابس والأشياء الأخرى الأكبر في البيت، فهو بحسب القاص يحتل مساحة "نص الدار.. ثقيل.. ما تقدرتش تنظّف اللي تحته.. ما يزّحزح من مكانه إلاّ بالتفكيك.. بعد يستقدم تنعوج الرفوف.. وأي لمسة تخرّم اللوح.." ويستطرد القاص بقوله "مع الاعتذار للدولاب المهنّى.. فهو مدسّ(مخزن) للعامرة على كل حال".
وصفٌ فيه كثير من الحقيقة، وهذا هو المؤلم في الأمر، والألم في كون فشل البرلمان بعد المؤتمر، ما هو إلا إيذان بفشل التجربة الديمقراطية وانفضاض الناس عنها، ويقين قطاع كبير منهم بأنها تجربة لا تصلح بهم بل هي سبب الفوضى التي يعيشونها اليوم، وهو خطأ كبير ونتيجة ليست منطقية، لكنك لن تجد آذانا صاغية مهما كانت محاججتك قوية ومنطقية؛ لأن نتائج التجربة الديمقراطية، أو فلنقل نتائج الانتخابات المختلفة من مؤتمر وطني وبرلمان وهيئة تأسيسية لوضع الدستور وحتى المجالس البلدية، كانت مريرة ولم تقدم لليبيين ما كانوا ينتظرونه من حقوق حرموا منها عقودا، بل رأوا فيها نموذجا بائسا من التسلط والانتهازية.
لا شك أن إفرازات الانتخابات وبالتحديد أعضاء المجلس التشريعية والمتخصصة والتنفيذية، كانت من أبرز عوامل فشل الانتقال الديمقراطي، لكن من المهم التأكيد أن الانتقال الديمقراطي الصحيح ليس مسؤولية تلك الهيئات وحدها، وبالتالي فإن مسؤولية الفشل لا تلقى عليهم بمفردهم وإن كانوا يتحملون النصيب الأكبر في ذلك.
إن تفاعلات الأجسام والمكونات والعناصر المرتبطة بالانتقال الديمقراطي خارج الدوائر الرسمية، التي من المفترض أن تساهم في الانتقال بكفاءة؛ من أحزاب وكيانات اجتماعية ومنظمات المجتمع المدني والنخبة بأطيافها الفكرية والسياسية كافة، والمهنيون من إعلاميين وصحفيين....الخ، كانت جزءا من التأزيم – وبالتالي الفشل - ولم يسهم كل من سبق ذكرهم في تقويم مسار الأجسام التشريعية والمتخصصة والتنفيذية، ولم يؤطروا ممارسات أعضائها، بل يمكن القول إنهم شاطروا تلك الأجسام المُخرج المتدني والنتاج السيئ.
ويبقى السؤال الجوهري: هل نُقر الاتجاه الذي هو شائع بين الغالبية العظمى من الليبيين دون تمييز بين المثقفين والعوام، وهو العودة إلى القبضة الحديدة وحكم العسكر وتسلط الفرد باعتبار أن المقارنة البسيطة بين العهدين السابق والحالي تقود إلى ذلك، دون سبر غور طبيعة الانتقال الديمقراطي من حقبة استبداد إلى مرحلة الحريات المطلقة وما يترتب على ذلك من أخطاء وانحرافات، ثم كيفية التعامل معها بالنظر إلى التجارب المشابهة؟ وفي حال عدم القبول بهذا الاتجاه الذي بات شبه مسلمة لدى شريحة واسعة من الليبيين، كيف يمكن إقناع الرأي العام بجدوى الانتقال الديمقراطي في ظل التجربة المريرة؟
الإجابة عن هذا السؤال ينبغي أن تكون محور نقاشات مستفيضة، وضمن أجندة الحوارات السياسية والمجتمعية، التي من المفترض أن تشغل حيزا كبيرا من الحراك السياسي والاجتماعي والثقافي اليوم، وأن تتسع لتشمل دوائر أكبر وأهم في المجتمع، لتضيق فقط في مساحة التفاهمات ودوائر التوافقات.