بجرأة غير معهودة في الأوساط الشرعية، نفى الفقيه والأصولي العراقي الدكتور طه جابر العلواني في دراسته السابقة المعنونة بـ" لا إكراه في الدين.. إشكالية
الردة والمرتدين.." ثبوت حد شرعي للردة، خلافا للمقرر في مدونات الفقه المعتبرة، والتي حكت الإجماع على قتل المرتد عقوبة له في الدنيا.
أقام الدكتور العلواني بحثه في نفي حد الردة على ركيزتين أساسيتين: الأولى: "حرية الاعتقاد "المطلقة" في
القرآن الكريم، ومنع الإكراه أيا كان نوعه، مستدلا بجملة من الآيات الكريمة، كقوله تعالى {لا إكراه في الدين}، والثانية: عدم وجود أي ذكر أو إشارة لحد الردة في القرآن الكريم، "مع وجود عدة آيات تتحدث عن هذه الجريمة النكراء".
لكن حد الردة ثابت في الأحاديث النبوية الصحيحة، فكيف تعامل معها الدكتور العلواني؟ أما
الحديث الأول وهو قوله عليه الصلاة والسلام "من بدل دينه فاقتلوه" [رواه البخاري]، فسنده ضعيف ومتنه شاذ، والحديث الثاني "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث... التارك لدينه المفارق للجماعة" فالعقوبة هنا ليست للردة لوحدها وإنما لشيء زائد عليها ألا وهو مفارقة المرتد للجماعة وخروجه على نظامها بحسب أطروحة العلواني.
من الطبيعي أن يثير رأي الدكتور العلواني المنكر لعقوبة الردة كحد شرعي ثابت، جماهير العلماء والفقهاء وطلبة العلم الشرعي، إذ المقرر عندهم ثبوت حد الردة بأدلة صحيحة صريحة في دلالتها، وانعقاد الإجماع على ذلك، لذا فإنهم اعتبروا نزوع بعض الفقهاء المعاصرين إلى إنكار حد الردة، إنما جاء نتيجة تأثرهم بضغوط الواقع، وعلو ثقافة "المتغلب" الغربي، خاصة فيما يتعلق بالحريات، والتي منها "حرية الاعتقاد".
يأتي كتاب "الردة بين الحد والحرية.. قراءة نقدية في كتاب لا إكراه في الدين" للباحث الشرعي السعودي صالح بن علي العميريني، والصادر عن دار التدمرية سنة 2013، في سياق جملة الردود المتكاثرة على كتاب العلواني، وقد اتسم رد الكاتب بالتناول الهادئ، والمناقشة العلمية الرصينة، والتركيز على الأفكار المطروحة بعيدا عن التعرض لشخص العلواني بسوء أو طعن أو تجريح.
الردة بين التأصيل الشرعي والإنكار
استهل العميريني كتابه بتأصيل عقوبة الردة كحد شرعي ثابت، فبعد استعراضه للآيات القرآنية المتحدثة عن الردة والارتداد، والتي لم تحدد لها عقوبة دنيوية، استعرض أدلتها الواردة في السنة النبوية، وبيَّن ثبوت حد الردة (قولا وعملا) عند الصحابة وأئمة السلف، وعرض أقوال الأئمة الأربعة في ثبوتها، ونقل عبارات العلماء في انعقاد الإجماع عليها كحد شرعي ثابت.
بين يدي مناقشته لأطروحة إنكار حد الردة، لاحظ العميريني أن دافع العلواني في دراسته يكمن في تخوفه الشديد، من استغلال حد الردة وتوظيفه كذريعة دينية من قبل الأنظمة السياسية لتصفية خصومها السياسيين، إضافة لاستغلاله في العالم الغربي لتشويه صورة الإسلام والمسلمين.
وكان الدكتور العلواني قد صرح بذلك في كتابه، رافضا الموافقة على فتوى شرعية تبارك مسلك حكومة عبد السلام عارف في محاولتها لتوظيف حد الردة، توظيفا سياسيا كذريعة لقتل ما يقارب خمسة آلاف شيوعي عراقي كمرتدين بعد فشل الانقلاب الشيوعي على الحكومة سنة 1963، ومشيرا إلى بعض وقائع قتل "المرتدين" قديما وحديثا.
تدور الفكرة المركزية في بحث الدكتور العلواني على أن قتل المرتد كحد شرعي ثابت، تتعارض مع حرية الاعتقاد المطلقة كما قررها القرآن الكريم بشكل واضح وصريح في العديد من آياته، وأن القرآن مع حديثه عن الردة والارتداد، إلا أنه لم يحدد عقوبة دنيوية للمرتد، مع عدم ثبوته في السنة العملية ولا السنة القولية، وعدم صحة دعوى الإجماع التي وجد من يخالفها في عصور الصحابة والتابعين والأئمة المتبوعين، فكيف ناقش العميريني أدلة العلواني وحججه؟.
استعرض العميريني أقوال العلماء في فهم وتفسير الآية الكريمة (لا إكراه في الدين)، والتي ترواحت بين القول بنسخها لأن الرسول عليه الصلاة والسلام أكره العرب على الدخول في الدين، وعدم نسخها وأنها نزلت في أهل الكتاب خاصة وأنهم لا يكرهون على الإسلام إذا أدوا الجزية، وقول ثالث أنها عامة في الكفار فلا يكره أحد على الإسلام، فمن شاء أسلم، ومن شاء أعطى الجزية إلى بقية الأقوال الأخرى.. ليخلص إلى القول "فالكلام كله هنا حول الكافر الأصلي، ولا ارتباط لها بالمسلم الذي ترك دينه وهو "المرتد"، مما يبين لك – وبوضوح – مخالفة المعاصرين لفهوم المتقدمين وخطأهم في استشكالهم لحد الردة وتصور معارضتها لمعنى الآية الكريمة".
ولتعزير هذا الفهم نقل عن الفقيه المقاصدي الطاهر بن عاشور قوله: "وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يُقتل، أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية، فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدين وجده غير صالح، ووجد ما كان عليه قبل ذلك أصلح فهذا تعريض بالدين واستخفاف به..
ووفقا للفقيه ابن عاشور فإن الارتداد عن الدين "فيه أيضا تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئا زاجرا مثل توقع الموت، فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلا على بصيرة، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى (لا إكراه في الدين) على القول بأنها غير منسوخة، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام، وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام".
مناقشة الأدلة ودعوى الإجماع
في محاججته النافية لإثبات حد الردة، ضعف الدكتور العلواني حديث "من بدل دينه فاقتلوه"، لضعف عكرمة مولى ابن عباس، ورد عليه العميراني بأنه في تضعيفه للحديث وهو في صحيح البخاري "لم يذكر عن أحد من العلماء وأهل الحديث أنه ضعفه، ولم ينقل الدكتور عن أحد منهم ما يؤيد ما ذهب إليه هو، والغريب في هذا أن الدكتور يحتج بتضعيف هذا الحديث بقواعد المحدثين التي قعّدوها، وهؤلاء الذين قعدوا القواعد قد صححوا الحديث ولم يختلفوا فيه، ولو اختلفوا فيه لكان له وجه في ذلك..".
وبخصوص حديث "لا يحل دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث، الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة" [البخاري ومسلم]، الذي يستدل به العلماء على حد الردة، فقد حمله الدكتور العلواني على "الترك للدين ومفارقة الجماعة والخروج عليها"، ورأى أن "تحمل عليه سائر الأحاديث مثل حديث "من بدل دينه فاقتلوه"، ويقول "أن حمل المطلق على المقيد أمر لا غبار عليه"، أما المرتد الذي لم يخرج على الجماعة فلا يشمله الحديث.
من جانبه ناقش العميريني رأي العلواني بأنه لم يقل به أحد من العلماء، وأظهر أقوالهم في شرح الحديث هو أن عبارة "المفارق لدينه" هي تفسير أو صفة لـ"التارك لدينه" وليس تخصيصا وتقييدا له، ونقل عن البيضاوي قوله "التارك لدينه صفة مؤكدة للمارق أي الذي ترك جماعة المسلمين وخرج من جملتهم..".
كما طعن الدكتور العلواني في صحة دعوى الإجماع، ورأى أن الإجماع غالبا ما يكون سيفا مشهورا لإسكات المخالف،لافتا إلى أن دعوى الإجماع منقوضة بمخالفة أئمة وفقهاء كبار، يقول العلواني عن الإجماع على قتل المرتد: "طيلة الفترات التاريخية لواقعنا التاريخي كانت هذه النظرة هي السائدة – القول بقتل المرتد – بحيث لم تحظ آراء فقهاء كبار مخالفين للأغلبية الساحقة أو للجمهور ولهم وزنهم، من أمثال عمر بن الخطاب من الصحابة، وإبراهيم النخعي، وسفيان الثوري، وأسماء لامعة أخرى، لم تحظ بالشهرة والرواج الكثير، مما يسر على جمهور نقلة الفقه إشاعة دعوى الإجماع على هذا الحكم الذي تبناه جمهور الفقهاء).
ناقش العميرايني مقالة العلواني في عدم صحة دعوى الإجماع، بإيراد الآثار الواردة عن عمر والتي منها أنه حينما سئل عن ستة رهط ارتدوا فقتلوا، ماذا كان يمكن أن يفعل بهم، فقال "كنت أعرض عليهم أن يدخلوا في الباب الذي خرجوا منه فإن فعلوا قبلت منهم وإلا استودعتهم السجن"، فما مراد عمر بقوله "استودعتهم السجن"؟
وفقا للعميرايني فإن ما يفهم منه في ظل موقف عمر الموافق لإبي بكر على قتال المرتدين (وقتالهم لم يكن لخروجهم على الوالي لأنه استشكل في البداية قتالهم وهم يقولون لا إله إلا الله) أن عمر أراد بذلك استتابتهم لثلاثة أيام فإن أصروا على ردتهم فإنهم يقتلون بعد ذلك، معززا فهمه هذا بما نقله عن الطحاوي "ومعنى ذلك الاستتابة وقد روي عنه أنه قال أستتيبهم ثلاثا"، وقول الإمام ابن عبد البر "يعني استودعتهم السجن حتى يتوبوا فإن لم يتوبوا قتلوا، هذا لا يجوز غيره لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم "من بدل دينه فاقتلوه".
أما أقوال إبراهيم النخعي وسفيان الثوري المخالفة للإجماع بحسب الدكتور العلواني في اطروحته، فناقشها العميرايني بقوله "لم يذكر الدكتور في كتابه الأثر الذي يدل على أن الإمامين (إبراهيم النخعي وسفيان الثوري) رحمهما الله يقولان بعدم قتل المرتد، والذي احتج به في نقض الإجماع، وهذا أمر مخالف للمنهجية الصحيحة للبحث العلمي..".
يبرز في هذا السجال الإسلامي الإسلامي حول حد الردة، وجاهة الجدل حينما يكون صادرا من داخل المنظومة الإسلامية ذاتها، ومن أهل العلم الشرعي المعتبرين، والتزاما بالمناهج الاستدلالية المقررة في المجال التداولي الإسلامي، بعيدا عن التأثر بضغوط الواقع، والاستجابة السلبية لمعطيات الثقافات الغالبة، ليفتح الباب على مصراعيه لإطلاق العنان لجدل إسلامي إسلامي حول عشرات القضايا والمسائل الإشكالية، التي تستدعي إعادة النظر فيها، وقراءتها قراءة جديدة، تحررها من ملابسات اللحظة التاريخية وإكراهاتها الضاغطة.