لم يمر حادث إسقاط طائرتين تركيتين من طراز "إف-16"، لمقاتلة روسية من طراز "سوخوي-24"، التي انتهكت المجال الجوي التركي عند الحدود مع
سوريا الثلاثاء الماضي، مرور الكرام؛ إذ اعتبره مراقبون مؤشرا وبداية لتغيرات كبيرة وجوهرية في طبيعة العلاقات والتحالفات في الشرق الأوسط.
وأدت الحادثة لتصعيد غير مسبوق بين أنقرة وموسكو اللتان كانتا تتمتعان بعلاقات مقربة، وتعتبران "شريكين إستراتيجين"، خصوصا في مجالات الطاقة، إذ تمر العلاقات بين البلدين "بأسوأ حالة لها خلال ستين عاما"، بحسب محللين.
علاقة نازفة
ووصف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إسقاط المقاتلة الروسية من جانب أنقرة بأنها "طعنة في الظهر"، مضيفا، خلال لقاء في سوتشي جنوب
روسيا، مع العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني في 24 تشرين الثاني/ نوفمبر بالقول: "بالتأكيد سنحلل كل ما جرى، والأحداث المأساوية التي وقعت اليوم ستخلف عواقب خطيرة على العلاقات الروسية-التركية".
إلا أن هذه "الطعنة" لم تكن الأولى في العلاقات الروسية - التركية، فقد رأى الكاتب التركي ديفيد باركارد أن التدخل العسكري الروسي في سوريا نهاية أيلول/ سبتمبر هو الذي "قلب لوح الشطرنج على واحدة من أدق وأمهر العلاقات، الاقتصادية والسياسية في أوروبا"، في إشارة إلى العلاقة الروسية - التركية.
وأضاف باركارد، الذي عمل صحفيا وكاتبا وأستاذا جامعيا في
تركيا، في مقال له على موقع "ميدل إيست آي" البريطاني، أنه "بالرغم من أن روسيا تخطط لخطوة التدخل في سوريا منذ ستة أشهر، إلا أن التغير في العلاقة مع تركيا أتى دون تحذير"، مشيرا إلى أنه "أثناء زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في 23 أيلول/ سبتمبر؛ لم تبد علاقة البلدين، المعتمدة بشكل رئيسي على التعاون في مجالات الطاقة والتجارة، متأثرة أو متضررة"، بحسب تعبيره.
وأشار باركارد، في مقال آخر على "ميدل إيست آي" بأن "تركيا وروسيا، العدوان التاريخيان قبل نهاية القرن العشرين عندما كانت روسيا القيصرية تعد الإمبراطورية العثمانية هدفا للغزو، هما اليوم شريكان اقتصاديان، خصوصا في مجال الطاقة"، مشيرا إلى أن الإضرار، أو حتى تقليل هذه العلاقات الاقتصادية ضار بشدة لكلا البلدين، لكنه قد يكون بالنسبة لتركيا أكثر، التي تستورد أكثر من نصف غازها الطبيعي من روسيا.
واعتبر الأستاذ الجامعي التركي أن "إصلاح العلاقات يبدو صعبا مع السياسات المتباعدة للبلدين حول سوريا، دون إشارات من أحدهما على التغيير، إذ عملت تركيا منذ عام 2011 على دعم المعارضة السورية سعيا لإسقاط نظام الأسد، في حين رفعت تركيا خطابها مؤخرا وسط حديث مباشر لأردوغان ضد تنظيم الدولة، الذي اعتبرها ناتجا لأعداء تركيا الآخرين: القوميين الأكراد، أو قوات الأسد".
احتواء لا تصعيد
بدوره، استبعد الباحث في العلاقات الدولية علي باكير حصول مواجهة مباشرة بين موسكو وأنقرة، مشيرا إلى أن الأزمة "في طريقها إلى الاحتواء".
وأوضح باكير، في تصريحات لـ "
عربي21"، أن تركيا "لا تعتبر موسكو عدوا، ولا تسعى لتصعيد الأزمة"، موضحا أن هناك مصالح اقتصادية كبرى بين البلدين، خصوصا على صعيد الغاز، والطاقة والاستثمارات، مستدركا أن موسكو "في ردة فعلها الغاضبة وحالتها غير العقلانية تبحث عن رد للصفعة، لكنها لن تكون مباشرة كذلك"، ولذلك ستأخذ العقوبات الاقتصادية الروسية على تركيا بعض الوقت، ولن تبدأ قبل بداية العام الجاري، بحسب قوله.
وفي سياق متصل، أكد الكاتب والباحث في الشأن التركي سعيد الحاج أن الأزمة تسير نحو حالة من الاحتواء وتجنب المواجهة المباشرة، مشيرا إلى أن روسيا ليست بصدد مواجهة كبيرة للناتو، كما أن تركيا ليست قادرة وسط أزماتها الداخلية أن تواجه روسيا في الوقت الراهن، وكان إسقاط الطائرة بمثابة “رسالة” لعدم تكرار الانتهاكات المتكررة لأجوائها، كما جاء الرد الروسي لـ "حفظ ماء الوجه".
وأوضح الحاج أن تركيا وروسيا لا يستطيعان الاغتناء عن بعضهما اقتصاديا، فمقابل الحاجة التركية للغاز والاستثمارات الروسية، فإن الاقتصاد الروسي يعاني في هذه الفترة، وسط انخفاض أسعار النفط التي أدت لانهيار الروبل الروسي، وفتح روسيا جبهتين عسكريتين في سوريا وروسيا، بحسب تصريحات الحاج لـ "
عربي21".
يذكر أن تركيا تستورد من روسيا أكثر من 55 بالمئة من الغاز الذي تعتمد عليه، كما أن ميزان التبادل التجاري التركي - الروسي وصل إلى 27 مليار دولار من أصل 32 مليار دولار - للتبادل التجاري التركي الكلي - عام 2014، فيما تعتبر روسيا ثالث أكبر المستثمرين في القطاع العقاري التركي، والثاني في المجال السياحي، بحسب الحاج.
المواجهة في سوريا
وأكد كلا الباحثين أن المواجهة الروسية - التركية ستشهد تصعيدها غير المباشر في الساحة السورية، وسط الدعم العسكري الروسي المباشر لنظام الأسد، والذي تواجهه تركيا ولا يمكن أن تتقبله وسط دعمها للمعارضة السورية هناك.
فعلى الجانب الروسي، أشار الحاج إلى أن روسيا صعدت عبر ثلاثة جوانب؛ الأول: تعزيز تواجدها العسكري والإستراتيجي، خصوصا عبر منظومة "S-400" التي تمنحها بعدا إستراتيجيا وتسمح لها بفرض حظر طيران، والثاني هو بناء قاعدة عسكرية جديدة لروسيا، بحسب ما أعلنت صحيفة "التايمز" البريطانية، التي كشفت أن قاعدة "الشيراط"، قرب مدينة حمص وسط سوريا أصبحت بالفعل مقر لهجمات المروحيات الروسية، موضحة أن فرقا ومعدات وأسلحة جديدة وصلت مقر القاعدة منذ شهر تقريبا.
أما الجانب الثالث، فهو تعزيز الطلعات الروسية على مناطق المقاتلين التركمان في الأراضي السورية، والمحسوبين على المعارضة السورية وتركيا معا، بذريعة قتلهم للطيار الروسي الذي قصف أراضيهم.
أما من الجانب التركي، فأشار باكير إلى أن تركيا تعمل على التصعيد في سوريا، عبر زيادة دعمها للمعارضة السورية بالسلاح، من ناحية، والعمل مع حلفائها،
السعودية وقطر، على تشكيل جبهة موحدة للمعارضة السورية سياسيا وعسكريا، لمواجهة حلف مع روسيا وإيران وحزب الله.
واعتبر باكير أن الموقف التركي من الثورة السورية موقف "مبدئي"، مشيرا إلى أن هناك تطابقا في الرؤى مع السعودية وقطر، وعمل مشترك على الأرض وعلى الجبهة السياسية، متوقعا رؤية المزيد من التماسك في الحلف الثلاثي (التركي والسعودي والقطري) بما يتعلق بالملف السوري خلال المرحلة القادمة، مؤكدا أن "تركيا لن ترضى بحل الأزمة السورية على حساب الشعب السوري، وهو ما سينعكس بالتصعيد على الأرض".
من موسكو إلى الرياض؟
وحول إمكانية توسيع التعاون بين تركيا والرياض في الملف السوري إلى "تحالف إقليمي"، لمواجهة إيران والسياسات المتباعدة مع موسكو التي توجت بإسقاط المقاتلة الروسية، استبعد الباحثان، باكير والحاج، "استبدال" موسكو بالرياض، خصوصا في المجال الاقتصادي، في الوقت القريب على الأقل.
وأوضح الحاج، الباحث في الشأن التركي، أن العلاقة بين تركيا والسعودية في الشأن السوري هي علاقة "تعاون إقليمي" لا تحالف، وتحتاج خطوات متبادلة من الطرفين ليتم تطورها، مشيرا إلى أن المشكلة تكمن في أمرين اثنين: "أزمة ثقة تاريخية بين الطرفين، كانت بشكل عداوة ومنافسة على قيادة العالم السني ولم تحل تماما، برغم العلاقات المقربة".
أما الأمر الثاني هو أن "أولويات السياسة الخارجية التركية والسعودية ليست متطابقة، فبينما تسعى تركيا لرحيل الأسد، ولا ترضى بأقل من ذلك، تركز السعودية على مواجهة الحلف الإيراني وتخشاه، خصوصا بعد توغله في اليمن عبر الحوثيين، والذي يمس أمنها بطريقة مباشرة".
من جانب آخر، أشار باكير، الباحث في العلاقات الدولية، إلى أن العلاقات التركية السعودية تشهد تصاعدا ملحوظا مطلوبا في كل المجالات، وسط سعي تركي لتوسيع الواردات لتقليص الاعتماد على الطاقة الإيرانية والروسية، بينما تعتبر دول الخليج، وعلى رأسها السعودية، هي الأقرب لها، مشيرا إلى أن "تركيا بدأت تزيد واردات الغاز لديها من الجزائر وأذربيجان وقطر، على حساب روسيا التي تستورد منها 57 بالمئة".
وأكد باكير أن العلاقات السعودية التركية تسير "بمسار إيجابي وتصاعدي منذ استلام الملك سلمان للحكم"، كما أبدى تفاؤله بتوسيع العلاقات الثنائية الاقتصادية"، وهو ما أشار له الحاج الذي أوضح أن "الاقتصاد باب مهم جدا لتحسين العلاقات الثنائية، وإذا استطاعت قطر والسعودية والسعودية إعطاء النفط والغاز لتركيا، يمكن أن نتحدث عن تحالف".
وأشار الحاج إلى أن زيارة الملك سلمان كان معولا عليها كثيرا، إلا أنها لم تخرج عن الدبلوماسية، ولم نسمع عن تطوير للعلاقات، "ولعل زيارة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان لقطر، التي تعتبر مقربة من السعودية وتركيا، الثلاثاء، تكشف أكثر، وتمهد لزيارة قريبة لأردوغان للرياض، تعزز العلاقات أكثر"، خصوصا مع استقبال الرياض للمعارضة السورية في الفترة القريبة المقبلة.
أما عن الموقف السعودي في أزمة المقاتلة التركية، فأكد كل من الحاج وباكير أن السعودية لا تريد التورط بين روسيا وتركيا، وتسعى للحفاظ على علاقتها مع الدولتين، إذ أوضح باكير أن "أي تدخل مباشر سعودي يمكن أن يفهم في روسيا ومناطق أخرى من العالم، وقد يؤدي لمواجهات إضافية تزيد من الأعباء على تركيا والسعودية"، في حين أشار الحاج إلى أن "السعودية لا تريد استثارة روسيا، كي لا تدعم حليفتها إيران والحوثيين في اليمن، التي تمثل الأولوية الأولى لها".
يذكر أن حجم التبادل التجاري بين السعودية وتركيا ارتفع خمسة أضعاف خلال عشرة أعوام، من 1.1 مليار دولار في 2004، إلى 5.4 مليار دولار في عام 2014، إلا أن تركيا تستورد 13 بالمئة من نفطها فقط من السعودية، مقابل 35 بالمئة من إيران، بحسب تقرير لمركز أبحاث "فيوتشر دايركشنز".
من جانب آخر، تسعى كل من السعودية وتركيا لتعزيز تحالف "سني" لمواجهة التمدد الإيراني الشيعي في المنطقة، وواجهته الأكبر سوريا، إذ أشار الكاتب التركي المعروف مراد يتكن في صحيفة "راديكال" إلى أن "السعوديين واعون للتأثير الإيراني على الشيعة، ويريدون سحب كل من تركيا ومصر لتحالف يريدون تشكيله"، موضحا أن الاعتماد السعودي الأكبر على تركيا "بسبب الجالية السنية الكبيرة، ولكونها عضوا في الاتحاد الأوروبي، وحلف شمال الأطلسي".