قبل نحو أسبوعين، ثارت ضجة من السخرية حول مؤتمر نظّمه مهرجان رام الله للرقص المعاصر في مدينة رام الله، تحت عنوان (الرقص مقاومة)، وتضمّن "حلقات نقاش دورية حول دور الرقص في مجتمعنا الفلسطيني وفي النضال الوطني والمقاومة"، على حدّ تعبير القائمين عليه.
والحقيقة أن الأمر يستحقّ أكثر من السخرية، ليس فقط بسبب إقحام المقاومة في شأن لا يمتّ لها بصلة مثل الرقص، إنما لما فيه من متاجرة رخيصة بقيم المقاومة والنضال، لاسيما في ظلّ انتفاضة قائمة على الأرض، من خلال عملياتها شبه اليومية، وما تخلّفه من دماء وشهداء.
هنا، رغم وضوح المهزلة والانتهازية في عنوان المؤتمر وتوقيته، إلا أننا وجدنا عددا من النخب الإعلامية والثقافية تباركه وتدافع عن فكرته، مقابل مبالغات من مهاجميه في الحديث عنه، وكأنه مصيبتنا الوحيدة، وطنيا وأخلاقيا، فيما هو مجرد مؤتمر لا وزن له، ينظّم في غرف مغلقة ومعزولة لا تؤثر على الواقع خارجها، ولا يصلها لهيب المقاومة الحقيقي على أرض الواقع.
في مقابل ذلك كله، ثمّة ظواهر فنيّة لافتة في هذه الانتفاضة، استحقت بجدارة حيازة لقب (الفنّ المقاوم)، تطبيقا وليس شعارا، وحقيقة وليست مبالغات.
وسأتناول هنا عملين فنيين فقط، رغم يقيني بوجود أعمال أخرى قديمة وحديثة تستحقّ التنويه بها والإشادة بدورها التعبوي في سياق العمل المقاوم.
الأول هو أنشودة (أخت المرجلة) التي أنتجتها فرقة الوفاء للفن الإسلامي في غزة، وخرجت إلى النور قبيل اندلاع هذه الانتفاضة، وكان محورها دور المرابطات في ساحات الأقصى، وما يتعرضن له من ملاحقات وانتهاكات من قبل الاحتلال، ولمسنا بوضوح أثرها الميداني الكبير في بداية الانتفاضة، وكيف أشعلت النخوة لدى عدد كبير من الشباب، وحازت شهرة واسعة، حتى غدت أيقونة الانتفاضة، خصوصا في بداياتها.
أما العمل الثاني، فهو أنشودة (عشاق الطعن) لفريق غرباء اللبناني، التي تم إطلاقها بعد اندلاع الانتفاضة بمدة قصيرة، وفيها إشادة بمنفذي عدد من العمليات بأسمائهم، أما تأثيرها في الوعي والميدان فقد فاق كلّ التوقعات، وغدت أنشودة الانتفاضة الثالثة بلا منازع، وكأنّ هناك سحرا خاصا في كلماتها وألحانها وأصوات منشديها.
فلا تكاد تمرّ في أسواق وشوارع الضفة الغربية دون سماعها. ويكفي ملاحظة حجم محبة ذوي الشهداء لهذه الأنشودة وسماع الكبير والصغير لها لنتعرف على قدر التأثير الذي صنعته معنويا ووجدانيا.
أما ميدانيا، فلعلّ نشر عدد من شهداء الانتفاضة للأنشودة على صفحاتهم على مواقع التواصل قبل استشهادهم يبيّن أن أثرها تجاوز العامل المعنوي إلى العامل التحريضي، وكأنها غدت من بواعث الفعل المقاوم، ومن ركائزه المهمة. ولهذا تُواجه بالحذف المتكرر عن موقع "يوتيوب" وصفحات "فيسبوك".
ولسنا نبالغ هنا حين نصف مثل هذه الأعمال وغيرها بالفن المقاوم، لأنه فنّ لا يبتغي المتاجرة ولا مسايرة الموجات النضالية، ولا تسجيل عمل لرفع العتب والحفاظ على الجمهور، إنما هو فنّ يعبّر عن رسالته بوضوح ودون مواربة، ولا يكيّف نفسه لتلافي اتهامات الإرهاب والتحريض ونحوهما، ولا يجمّل الزيف أو يزور الحقيقة، ولذلك ينجح في اختراق العقول والقلوب، وتعبئة النفسيات وشحنها للفعل، ويواسي آلام ذوي الشهداء والجرحى.
فكما أن المقاومة لا تحتمل المسارات المائعة والضبابية، فكذلك الفنّ المواكب لها والمحسوب عليها، أما أيّ عمل يقحم نفسه قسرا على المقاومة وظواهرها، فلنا أن نسميه أي شيء يتعلق بهوامش الفعل، ولكن ليس صميم الفعل نفسه.