(1)
لستُ مولعا بالحديث عن الذكريات؛ باعتبار أن ما جرى مرّ بحلوه ومُرّه، لكن ذلك اليوم له خصوصية؛ إذ كان يوم هزيمة
الثورة، وما حدث بـ 3/7 لا يعدو كونه "الإعلان الرسمي" للهزيمة.
(2)
صباح الخامس من ديسمبر 2012 تصاعدت حدة الأزمة السياسية بمصر على خلفية إصدار الرئيس -حينها- إعلانا دستوريا حوى في بنوده مطالب نادت بها الثورة، وأخرى مخاصِمة لها، وأيا كانت خلفيات تلك البنود المخاصمة -حتى لو افترضنا حسن النية- فهناك من يتوجس من أي أمارة للاستبداد، خاصة أن المجتمع كان لا يزال يحمل في ذاكرته ممارسات نظام ما قبل الثورة.
احتشدت أعداد مناهضة للإعلان الدستوري أمام قصر الحكم بالاتحادية، إلى أن قرر أنصار الرئيس التدخل لفض الاعتصام، وقرر الآخرون التصدي لهم، وقررت الجهات الأمنية التدخل أحيانا بصورة تسهم في إشعال الأحداث لا إخمادها، أو "الحياد" وهو ما يتنافى مع دورها تماما. انتهى ذلك اليوم بكل تفاصيله المطبوعة في الوجدان، وأصيب من أصيب وقُتِل من قُتِل، وظن البعض أنه انتصر وحمى الرئيس من مؤامرة، وظن آخرون أن انتصارهم صار وشيكا، لكن ما عرفناه فيما بعد أن الجميع هُزم وانتصرت قوى الاستبداد.
(3)
لا تزال ذكرى ذلك اليوم وذكرى محمد محمود يحملان جراحا بين شركاء نضال لم تنس، إلا أننا نصر ونقول "آفة حارتنا النسيان"، حسنا يبدو أنها لم تعد من آفاتنا.
(4)
قبيل فجر اليوم التالي ليوم الهزيمة خرجت مكتئبا بالشوارع، ولا أبالغ أو أصوغ صورة بيانية، إذ أقول إنني لأول مرة أشعر أن الشوارع حزينة ومكتئبة، شعرت بالفعل أن الجماد انكسر وانهزم معنا، وكذلك كانت الوجوه.
كنت جارا للاتحادية يومها، ورأيت كيف كان الخوف مسيطرا على حشود متعطشة للدماء، لم يكن بمقدار أي ملتح أو منتقبة أن يسير بجوارهم، كما لم يكن مسموحا لأي وجه معارض للسلطة أن يقترب من أنصارها، قمت بوصف طريق للخائفين لتجنب الحشود، وربما سرت مع بعضهم حماية لهم قدر المستطاع، ورغم شككهم الدائم -فالخوف والرعب كانا واضحيْن- إلا أن الأمل في السلامة من هذا الجنون جعلهم يقبلون السير معي وأنا غريب.
(5)
لا أدري كيف قبل أفراد يزعمون أنهم دعاة أن يقوموا بذلك التعذيب العنيف للنساء قبل الرجال، لن أنسى وجه الفتاة الشهمة "علا شهبة" وقد تورم من الاعتداء عليها، لم أتخيل أن هناك "إسلاميون" يعتدون على امرأة بتلك الطريقة لمجرد الهتاف ضدهم، ومثل "علا" لا تحمل سلاحا أبدا، ولا تدعمه.
بالمقابل لم أتخيل أن هناك ممن الْتحف بالثورة من يقبل بأن يكون في وسطه من يحمل السلاح ضد من كانوا رفاقه، فهم -وخصومهم- تباهوا بالسلمية أمام المجرم مبارك، تخيل.. سلمية مع مبارك وعسكره، وموت لرفاقنا.
عقب صلاة الجمعة بالأزهر والصلاة على جثمان من انتقلوا لربهم في تلك الليلة، بكيت كما لم أبكِ من قبل، وربما كان البكاء حينها على ثورة تشكلت ملامح ضياعها، فأنا لا أعرف أحدا ممن صليت عليهم.
(6)
لا زلت أذكر جيدا أحداث يناير، التي اشتعلت بعد وفاة أول حالة بالسويس، وكذلك اشتعال الغضب مع كل حالة قتل عدواني لأي مواطن أو مجرد الاعتداء عليه، حدث ذلك في إبريل والبالون وماسبيرو ومحمد محمود ومجلس الوزراء وبورسعيد، مجرمو السلطة وسدنتها فطنوا لذلك، فجعلوا القتل يدور بين رفاق الثورة لأجل خلافات ما كان يمكنها أن توصلنا للحالة الراهنة، لو كان الاحتكام فيها لأدوات ديمقراطية.
بعد أن اختلفنا بحدة، ثم اشتبكنا، ثم انقسمت أماكن مطالبنا، لم يبق سوى أن نقتل بعضنا، بدأنا بالاتحادية، ويبدو أن الذين رتبوا ذلك وجدوا أن مسار الدم ينجح، فاستمروا في السير فيه حتى استولوا على السلطة ومن بعدها احتكروا هم القتل.
(7)
لم يكن مطلوبا ممن تعرضوا للتعذيب في ذلك اليوم أن يصفحوا، ولم يطلب ممن تعرضوا للقتل الصفح أيضا، وليس المراد أن يتم التجاوز عن أخطاء ذلك اليوم وغيره، لكن ما افتقدناه وجود العقل عند أي طرف، طرف السلطة السياسية بالاحتواء، أو طرف المعارضة لتكون رشيدة وعاقلة لا نزقة وحاقدة، أو طرف السلطة الفعلية الممثلة بشبكات المصالح بين رجال المال والجهات الأمنية والعسكرية بحفظ التماسك الاجتماعي والسلم، لم تقف أي جهة أمام مسؤليتها لتوقف ذلك العبث وتطرح سبلا "حقيقية" للخروج من الأزمة، بل نظر الكل إلى مقعد أنيق وحيد على متن سفينة بدأت في الغرق، ورغم ذلك الدرس لا يزالون جميعا ينظرون إليه.
(8)
أخيرا وإحقاقا للحق، خطأ الإخوان كان في قرار الصدام، واستبدال مسؤولية الجماعة بالجهات الأمنية، والإجرام كان في التعذيب الذي قام به أفراد منهم، بداخل قصر الرئاسة، لكن المجزرة -من حيث معناها الحرفي- لم يكونوا هم من صنعها، بل تمت في حقهم.
(9)
لا زلنا نذكر ما صنعناه بيننا، لكننا نسينا تماما ما صنعه العسكر الذين تحالف كل فريق معه قليلا، والآن لا أحد يخرج من تحت مقصلتهم، نسينا ذلك لأنه لا زالت آفة حارتنا النسيان.