نشرت مجلة "ذي أتلانتك" تقريرا للدبلوماسي البريطاني السابق والمبعوث البريطاني الخاص لليبيا جوناثون باول، دعا فيه إلى التفاوض مع
تنظيم الدولة.
ويقول باول إنه "من الطبيعي أن يكون رد الفعل على الجرائم التي يرتكبها تنظيم الدولة الغضب، والمطالبة بمضاعفة الجهود لتدمير التنظيم، ولكن وبعد أن يرتفع الضباب، علينا أن نفكر بهدوء، ونفكر بالاستراتيجية على المدى الطويل".
ويضيف الكاتب: "يجب على الحكومات الغربية التعلم من
التاريخ، فخلال حرب التحرير الإيرلندية في 1919، قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد لويد جورج إنه لن يتفاوض مع (عصابة القتلة)، متمثلة في الجيش الجمهوري الإيرلندي (الأصلي). وبعد ذلك بسنتين كان يتفاوض مع قائد المجموعة مايكل كولينز. وحديثا قال ديك تشيني: (لا نتفاوض مع الشر، بل نهزمه). ولكن في الواقع غالبا ما ننتهي بالتفاوض مع الجماعات
الإرهابية لا بهزيمتها عسكريا. فبدلا من أن نعاني من فقدان الذاكرة الجماعي، علينا أن نراجع ما حصل خلال المئة سنة الماضية، فقط لنقلد الخطوات التي قادت إلى إنهاء ناجح للصراعات".
ويواصل باول قائلا: "لا يمكن علاج عنف تنظيم الدولة في الغرب إلا جذريا في العراق وسوريا، وهذا يحتاج إلى استراتيجية عسكرية جوية وبرية، فلا أعرف أحدا لديه القناعة بأنه يمكن هزيمة تنظيم الدولة من الجو فقط، فلا يمكن طرد جيش من مكان، وتركه خارج ذلك المكان، إلا بتواجد بري على الأرض، ولم تقدم أمريكا ولا حلفاؤها إلى الآن جوابا على السؤال: من سيوفر القوات البرية؟ مع أن أمريكا بدأت بإرسال قوات عمليات خاصة للبلدين".
ويتابع الكاتب بأنه "حتى لو استطاعت أمريكا وحلفاؤها إضعاف التنظيم، ليعود تنظيم حرب عصابات مرة ثانية، فليس هناك حل عسكري لهذه المشكلة، كما أشار البيت الأبيض. والتجارب الماضية تعني أنه لا بد من وجود استراتيجية سياسية موازية للاستراتيجية العسكرية لهزيمة فكر الحركة الإرهابية. وإن كانت الحركة الإرهابية تحظى بدعم سياسي كبير، فإن إنهاء العنف تطلب تاريخيا التعامل مع المظالم التي تعتاش عليها الحركة، والتفاوض مع قيادتها في النهاية".
ويعتقد باول أنه "إن كان هناك قضية سياسية في قلب الصراع، فيجب أن يكون هناك حل سياسي. ففي شمال إيرلندا استمر عنف الجيش الجمهوري الإيرلندي (المؤقت) لثلاثة عقود، ومع أنه تم تحجيمه في الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي بخليط من العمل الأمني والاستخباراتي، إلا الصراع لم ينته إلا بمفاوضات دامت عشر سنوات، انتهت باتفاقية الجمعة العظيمة عام 1998، واتفاقية سان أندروز عام 2006، (حيث كان الكاتب مفاوض الحكومة البريطانية الرئيس). ولم تنته حملة حركة أتشيه الحرة في إندونيسيا، إلا من خلال
المفاوضات بوساطة الرئيس الفنلندي مارتي أهتيساري عام 2005. ولم تستطع أمريكا القضاء على جبهة فارابوندو مارتي للتحرير الوطني في السلفادور من خلال عقد من الحملات العسكرية، ولكن انتهى الصراع من خلال مفاوضات برعاية الأمم المتحدة عام 1992. ولم ينته الصراع بين جبهة تحرير مورو الإسلامية والحكومة الفلبينية، إلا بالمفاوضات بين الحركة والرئيس بنغنو أكينو عام 2014".
ويشير الكاتب في تقريره، الذي ترجمته "
عربي21"، إلى أن "هناك أمثلة أخرى كثيرة، ولكن ليس هناك مثال واحد لحملة إرهابية تحظى بدعم سياسي تم إنهاؤها من خلال وسائل عسكرية فقط. وقد لا تنجح المفاوضات من أول مرة. ففي حالة أتشي والباسك في إسبانيا وشمال إيرلندا جاء النجاح النهائي بناء على سلسة من المفاوضات التي فشلت".
ويقول باول: "سيقول البعض إن تنظيم الدولة مختلف عن أي شيء سابق، ولكن هذا ما قيل بالضبط عن الجيش الجمهوري الإيرلندي عام 1919. وصحيح أن تنظيم الدولة قائم على الدين، ولكن كذلك كانت حركة أتشيه الحرة وجبهة تحرير مورو الإسلامية، ما يعني أنه ليس من المستحيل التفاوض معها. وقد يقول آخرون إن مقاتلي التنظيم هم مرضى نفسيون عدميون غير قادرين على التفاوض، ولكن استراتيجيات التنظيم العسكرية والإعلامية تعكس صورة أخرى لقيادات فطنة ووحشية. صحيح أن تنظيم الدولة يختلف عن غيره من المجموعات السابقة، ولكن كلا من تلك المجموعات كان مختلفا عن غيره، ولا أظن أن دروس التاريخ لا تنطبق على هذه الحالة. فليس هناك صراع مع مجموعات مسلحة لا حل له، ولكن هناك صراعات لم تحل بعد".
ويجد الكاتب أنه "قد يكون غريبا أن يحظى تنظيم مثل تنظيم الدولة بدعم سياسي، ولكن كيف يمكن تفسير احتلال ألفي مقاتل لمدينة مثل الموصل، عدد سكانها 1.5 مليون نسمة دون هذا الدعم. ولذلك يجب على أي استراتيجية سياسية أن تتعامل مع مصادر الدعم، وبالذات التهميش الذي يشعر به السنة، الذي تسبب به بشكل رئيس الحكم الفاسد والطائفي لحكومة نوري المالكي في بغداد، التي غلب عليها العنصر الشيعي، والتي جعلت حتى تنظيم الدولة مفضلا لدى السنة. ولم تكن صدفة أن يعتمد زعيم التنظيم على ضباط سابقين من جيش صدام نوابا عنه. وفي سوريا فإن سيطرة عائلة الأسد ومؤيديها العلويين لها التأثير ذاته على السنة هناك. وبعبارة أخرى فإن هناك مظالم حقيقية تكمن وراء صمود تنظيم الدولة في بلاد ما بين النهرين".
ويقترح باول أن تكون المفاوضات بين التنظيم وأمريكا وحلفائها، خاصة أن التنظيم لا يعترف بأي من حكومتي بغداد أو دمشق، حتى يتم إقامة حكومتين مقبولتين هناك، لإتمام المفاوضات ولإيجاد حل طويل الأمد.
ويشدد الكاتب على أن التفاوض مع الإرهابيين لا يعني موافقتهم على ما يفعلون، ويضرب مثلا بإيرلندا الشمالية مرة أخرى، قائلا إن "الحكومة البريطانية في تسعينيات القرن الماضي كانت ترفض تماما التفاوض مع الجيش الجمهوري على إيرلندا متحدة ضد رغبة الغالبية، ولكن لدى الجلوس مع الجمهوريين اكتشفت الحكومة البريطانية أن هناك مواضيع حقيقية للنقاش، مثل مشاركة السلطة بين الكاثوليك والبروتستانت، وحقوق الإنسان، ويمكن أن تعاد التجربة ذاتها مع تنظيم الدولة، حيث لن يتفاوض أحد على قيام خلافة عالمية، ولكن هناك قضايا يمكن التفاوض عليها، ابتداء من الظلم الواقع على السنة، وكيفية تحسين أوضاعهم في العراق وفي سوريا".
ويلفت باول إلى أنه "يمكن تخيل حل بإعطاء السنة في كل من العراق وسوريا حكما ذاتيا. كما أن المفاوضات متحركة وليست ساكنة، أي أن المواقف تتغير كونها جزءا من العملية، فحتى لو كان بعض قيادات التنظيم، خاصة الأجانب منهم، متشددين في مواقفهم، إلا آن غيرهم وتحت الضغط العسكري قد يكون على استعداد للرضا بمكاسب أقل، فيجب دعم مواقف المعتدلين نسبيا. ولن تكون مثل هذه المفاوضات سهلة، ولكنها ممكنة".
ويكرر الكاتب الإشارة إلى "عدم وجود حكومة يقبل السنة التفاوض معها في بغداد، ما يجعل من الضروري وجود مجهود خارجي لإيجاد حوار بين الشيعة والسنة في العراق، وهو ما كان يجب فعله قبل مغادرة أمريكا وبريطانيا للعراق".
أما في حالة سوريا، فيقترح باول "التحدث إلى المعارضة، التي تركز على الإطاحة بالأسد، لتشجيع الحوار بين الطوائف المختلفة، ولتقسيم الدعم السني لتنظيم الدولة، وكما كان الحال في شمال إيرلندا، حيث كان التركيز على إيجاد سلام بين الفرق الأقل تطرفا من الكاثوليك والبروتستانت، وانتهى الأمر بالتفاوض بين المتشددين من المعسكرين، وهذا ما يمكن تكراره في سوريا والعراق".
وتختم "ذي أتلانتك" تقريرها بالإشارة إلى أن باول كرر أكثر من مرة أنه لا يقترح المفاوضات كونها بديلا للحرب، مشيرا إلى أن هناك حاجة للقيام بالأمرين. ويقترح إيجاد قنوات سرية مبدئيا، حتى عندما يصل الحل العسكري إلى طريق مسدود فيه أذى للطرفين، يمكن بدء المفاوضات، وأشار إلى أن الحكومة البريطانية كانت قد فتحت قناة سرية مع الجيش الجمهوري الإيرلندي منذ عام 1972، ولم تبدأ المفاوضات الحقيقية حتى عام 1992.