لا تبدو
روسيا معنية بالحراك السياسي الحاصل حول الملف السوري، إلا من جهة كونه يدعم استراتيجيتها في إغراق الطرف الأخر بالتفاصيل، وإلهائه لأطول وقت بما يضمن منع أي إجراءات وترتيبات دبلوماسية وعسكرية مضادة للوجود الروسي في
سوريا.
وفي هذا الوقت المستقطع، تقوم روسيا بتجهيز البيئة المناسبة لاستمرار وجودها في سوريا، مع ملاحظة أن روسيا تستفيد كثيرا من ضعف ردود الفعل الدولية تجاهها.
حتى اللحظة نجحت روسيا بمنع أحد من سؤالها عن أفعالها في سوريا، ورغم أنها أفعال ترقى إلى مستوى حرب الإبادة والجرائم الطائفية بامتياز، بل الغريب أن روسيا تعمد بشكل دائم إلى دفع العالم إلى تفسير سلوكه وتبرير أعماله، التي تأخذ في الغالب طابعا دبلوماسيا، وكأن لها حق على الجميع يمنحها سلطة الرفض والتحديد والاشتراط، وكل ذلك بذريعة أنها الطرف الوحيد الذي يمتلك تفويضا شرعيا بالتدخل، وليس مهما فحص هذا التفويض والجهة التي أصدرته ومدى أهليتها القانونية ونسبة تمثيلها للشرعية السورية.
وبعكس ما تعتقده بعض الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية من أنّ شراكتها مع روسيا في حوار دبلوماسي من شأنه أن يثمر مناخا مناسبا لحل الأزمة وينتج الشروط اللازمة لصناعة هذا الحل ويحدد الآليات التي تقوده، وذلك عبر منصات فيينا وجينيف أو حتى نيويورك.
إلا أن روسيا تنظر للموضوع من زاوية مختلفة تماما، فهي تقّيم الحالة بالأصل على أنها صراع قوة بين الأطراف الدولية الفاعلة على الشرق الأوسط، وهو صراع يتيح استخدام كافة الأدوات التي تليق بهذا المقام من عسكرية ودبلوماسية وغيرها، وتاليا فإن الجزئية الدبلوماسية منه هي لترسيخ التفوق في الميدان، وتكريسه عبر تسويات تعترف بهذا التفوق لا أن تلغيه لصالح أي هدف أخر، بما فيه هدف تحقيق الشعب السوري لطموحاته في الاستقرار والسلام.
على ذلك، فإن نتائج ومخرجات مؤتمر الرياض للمعارضة السورية ليست في نظر روسيا سوى تفصيل إلهائي آخر، وأداة تشغيلية ضمن أدوات تضييع الوقت التي صمّمتها روسيا في لعبة الصراع على سوريا والاستحواذ عليها، وستبذل موسكو كامل جهودها في الفترة المقبلة للاستفادة من هذا المؤتمر في توسيع مساحة الأخد والرد مع المجتمع الدولي حول ما هو مقبول وما هو مرفوض في مخرجاته، وإغراق نتائجه بالاشتراطات ومحاولات التكييف، في الوقت الذي ستتوجه فيه الأنظار إلى الخلافات المصطنعة التي ستثيرها روسيا على المنابر الدولية، ستذهب باتجاه تطبيق استراتيجية مغايرة على الأرض السورية بدأت بعض ملامحها بالظهور:
- محاصرة الداخل السوري عبر دفع
تركيا إلى الانكفاء تماما، وذلك حتى تتمكن روسيا من الانفراد كلية في الداخل السوري، والقضاء على البيئة المعارضة لنظام الأسد بشكل جذري ونهائي، وتستثمر روسيا وضعية التوتر مع تركيا لتمرير خطتها، وفيما ينشغل العالم بتفكيك ألغام المواجهة بين الطرفين خوفا من تحوّلها إلى حرب عالمية تجد روسيا نفسها مرتاحة في تطبيق سياسة العزل والحصار على الداخل السوري.
- استخدام أقصى درجات العنف تجاه المدنيين لتفريغ سوريا من المكون السني إلى أبعد حد، وتستثمر روسيا في ذلك فترة سماح العالم لها بتجهيز بنية للتسوية في سوريا وادعاءها ضرب معاقل الإرهاب.
- استثمار خبرتها الاستخباراتية في الأعمال القذرة، مدموجة بالمساعدات اللوجستية للاستخبارات الإيرانية والسورية، لتفكيك بنية الثورة وتدمير الفصائل المقاتلة عبر صناعة عوامل التفرقة وإدخالها في صراعات بينية تؤدي مع الزمن إلى تشتيتها وإنهاء فعاليتها القتالية، من نمط ادعاء موسكو لمساعدتها للجيش الحر وتنسيقها معه في ضرب الفصائل الإسلامية.
- تكوين تكتّل دولي داعم لمقاربتها للحل في سوريا على أساس إعادة تعويم نظام الأسد، واعتبار أن المطالبة بحق الشعب السوري بالحرية والتغيير مطالب ثانوية تحتمل التأجيل فيما الحرب على الإرهاب أمر لا بد من إنجازه خلال المرحلة القادمة لحماية المجتمع الدولي من تداعياته، وبناء عليه لا يمكن إنجاز الهدفين بالتساوي، بل إن إسقاط نظام الأسد ستكون له نتائج عكسية على هدف القضاء على الإرهاب.
تعتقد روسيا بأن العالم مضطر في النهاية للخضوع إلى شروطها انطلاقا من حقيقة أنها القوة المتحكّمة في مسرح العمليات السوري، وسيكون لها الدور الأكبر في إنتاج المشهد السياسي السوري القادم، ومن الناحية العملية قد تنجح روسيا بتحقيق تصوراتها أو جزء منها إذا بقيت الأطراف الاخرى مشغولة بكيفية إرضائها في سوريا، ولا يمكن إقناع موسكو وقادتها المصابين بهوس المؤامرات عليهم بخطأ حساباتهم إلا بالتعامل الجدي مع الوجود الروسي في سوريا على أنه حالة احتلال من شأنه تدمير الأمن الإقليمي، والتأثير على الأمن والسلام الدوليين، وبالتالي مواجهته بما يقتضي من رد مكافئ ومناسب، وفي هذا المقام يبدو السماح بتسليح الثوار السوريين بصواريخ الستينغر أفضل رد أقله لحماية ما تبقى من أطفال سوريا الذين تلتهمهم قاذفات السوخوي دون رحمة.