في تلك الأمسية من ليالي ديسمبر سنة 1954، كانا يجلسان في شرفة المنزل، وفي يد كل منهما كوب من الشاي، كان الحديث يدور عن خبر إعدام الشهيد عبد القادر عودة، الاثنان كانا يشعران بالغضب، تلك العصابة من الضباط فاق إجرامها كل الحدود، ولا بد من التخلص منها.
قال لصديقه وهو يومئ برأسه في لهجة العارف ببواطن الأمور: "ضباط
الجيش الشرفاء لن يسكتوا على عصابة الضباط، وسيقومون بانقلاب، ويخلعون عصابة
عبد الناصر ورفاقه"
عبد الناصر قام بتسريح كل الضباط فوق رتبة بكباشي!
قالها ردا على صديقه ثم قام عائدا إلى منزله، وقد بقي السؤال معلقا، متى يتحرك شرفاء الجيش ليخلعوا عصابة الضباط؟
بعدها بسنتين، جمعتهما الشرفة وأكواب الشاي وبوادر الشتاء من جديد، وكان الحديث يدور همسا هذه المرة، فقد تغير كل شيء، وأصبح الرأي من الموبقات وكبائر الذنوب في
مصر التي أخذ لون هوائها يتحول إلى السواد.
غاضبا كان، يعلو صوته فيشير إليه صديقه المؤمن بالجيش أن يخفض صوته؛ لأن (الحيطان لها ودان) لقد احتل الصهاينة سيناء، وانسحب الجيش بالأوامر، ومنع عبد الناصر سلاح الطيران من توجيه أي ضربة للعدو، ماذا ننتظر لنثور على هؤلاء الخونة؟
تلفت صديقه حوله، ثم أشار بكفه على فمه، أن اخفض صوتك، ثم قال :"الجيش فيه شرفاء، سيتحركون لتخليص مصر".
بعد هذا المشهد بسنوات:
ما يزال في جلسته القديمة التي لا يغيرها، جالسا على المقعد الخشبي في الشرفة، ممسكا بكوب الشاي، بدأت بعض الأخاديد تغزو وجهه، فقد كانت السنوات القليلة الماضية قاسية.
على المقعد المقابل يجلس صديقه، وحزن عميق جاثم على وجهه.
فقد كانت العصابة قد أعدمت الشيخ سيد قطب.
لم يكن الصديقان قد شاهدا صورة الشيخ سيد قطب يسير ثابتا مرفوع الرأس نحو المشنقة، ولكن الوجوم كان سيد الموقف، وبدا لهما أن الهواء نفسه قد تجمد.
دموع ماجت في أعينهما، سيطر عليها الاثنان بالكاد.
في ذلك الوقت، كان جيش عبد الناصر يرتكب مجازر، يخجل منها إبليس، ضد أهلنا في اليمن، كانت الأنباء شحيحة ولكن ما يصل منها كان مروعا.
قرى كاملة يقصفونها من الطائرات بالأسلحة الكيماوية.
الجنود يدخلون قرى فيذبحون أهلها.
تمالك نفسه وتكلم.
قيادات الجيش فاسدة، ولكن شرفاء الجيش لن يتركوا هذه العصابة تستمر في فسادها.
لم تكن حالته تسمح بالجدال، كان يسيطر على دموعه بمعجزة.
فتركه عائدا إلى منزله دون كلمة واحدة.
سنة أخرى مرت.
واجتمعا في الشرفة ذاتها.
كان العدو الصهيوني قد احتل غزة والضفة وسيناء والجولان واحتل المسجد الأقصى.
كان جنود عبد الناصر القادمون من اليمن قد شُحنوا على عجل إلى سيناء، بعضهم وقع في الأسر، والبعض الآخر قتل، بينما نجا البعض الآخر بعد أن انقذهم مرشدو القناة مقابل بطيخة وشمامة للرأس.
قال له في نهاية المناقشة:
"الجيش فيه قيادات فاسدة، لكن شرفاء الجيش لن يرضوا عن الهزيمة، وسيطيحون بعصابة عبد الناصر!"
نظر له صديقه في ذهول، ووضع كوب الشاي على الطاولة الصغيرة، وانصرف.
جلسات أخرى جمعتهما في سنوات تالية في الشرفة.
خدع الاثنان في هزيمة أكتوبر.
ثم اكتشف الصامت الخدعة بعد توقيع السادات لاتفاق السلام مع العدو.
وفي كل مرة كان صديقه يرد عليه: (شرفاء الجيش سيتحركون لإنهاء المهزلة).
سنوات كثيرة مرت على القاهرة، فازدادت تجاعيد المدينة العجوز.
وهو في الشرفة ذاتها التي تحولت إلى كهف.
قتلوا الشهيد سليمان خاطر.
حوصرت غزة لحساب العدو.
تم اطلاق سراح جواسيس العدو.
خيانات وفساد وسرقة بالمليارات وتدمير وتخريب.
وهو جالس ينتظر شرفاء الجيش.
جلسات أخرى جمعت بينهما.
مجزرة رابعة وتهجير أهالي رفح والطيران الصهيوني الذي يمرح في سيناء، وخيانة عظمى ترتكبها عصابة الانقلاب يوميا، شاهد الرجل فيديو الجنود الذين يعذبون اثنين من أهالي سيناء قبل قتلهما، وشاهد فيديو الشاب الفلسطيني المضطرب عقليا الذي قتله جندي مصري وشاهد وشاهد وشاهد.
وفي كل مرة في الشرفة ذاتها يؤكد الرجل أنه بانتظار شرفاء الجيش.
الرجل يجلس في شرفته منتظرا مشعلا بعض الشموع ، مؤمنا أن شرفاء الجيش اختبأوا في السرداب منذ ستين عاما، وسيخرجون في الوقت المناسب لينقذوا مصر.