المشهد
التونسي اليومي يوحي في ظاهره بانفراج ملحوظ في الواجهة السياسية بعد الاتفاق بين المكونين الأساسيين في البلاد بتقاسم السلطة إثر الانشقاقات التي عرفها حزب النظام القديم.
حزب "نداء تونس" أو الوريث غير المعلن لنظام "بن علي" عرف خلال الأشهر الأخيرة صراعا مريرا في رأس الهرم السياسي انتهى بانتصار الشق المحافظ الموالي لرئيس الجمهورية على حساب شق آخر يوصف بأنه استئصالي متطرف.
هذا التطور يأتي امتدادا لتتويج دوليّ منح تونس جائزة نوبل للسلام بما هي شرعية دولية تعترف بالنموذج التونسي نموذجا انتقاليا ناجحا مقارنة بالمنوالات الفاشلة في دول الربيع الأخرى حيث حُوّلت الثورات فيها إلى فوضى دامية لا زالت أصداؤها تتردد. التوافق إذن هو عنوان المرحلة الجديدة حيث يجتهد المتوافقان في تسويق التسوية البينيّة على أساس أنها أفضل الممكن وأنها انتصار تاريخي على الخطاب المتطرف كما يصفانه وهو الخطاب الذي يدعو إلى محاسبة النظام القديم وزبانيته على الجرائم التي ارتكبت في حق الثورة وفي حق البلاد لمدة تزيد عن نصف قرن.
هذا المشهد الموحي بالتوازن في ظل الشرعية التوافقية التي نشأت بين الإسلاميين وبين النظام القديم هو مشهد يعود إلى لقاء باريس التاريخي بين الشيخين اللذين يحكمان تونس اليوم أي رئيس حركة النهضة ورئيس حزب نداء تونس. هذا اللقاء الشهير الذي عرفته العاصمة الفرنسية تمّ بعد فشل جملة المحاولات الانقلابية على الشرعية الانتخابية من طرف فلول النظام القديم بمعونة الاستئصاليين من اليسار ومن القوى النقابية والأمنية أساسا ومن القوى المدعومة عربيا وغربيا بإفشال التجربة التونسية. الشرعية التوافقية إذن هي ثالث المرجعيات السياسية التي عرفتها التجربة التونسية بعد ربيع ثورتها وتقع قبلها الشرعية الثورية ثم الشرعية الانتخابية التي أفرزت المشهد السياسي الحالي رغم ما شابها من خروقات ومن تزوير أفقي وعمودي.
المرجعية الثورية المحملة بشعارات ثورة 17 ديسمبر الخالدة وعلى رأسها شعاري "التشغيل استحقاق يا عصابة السراق" و"يسقط حزب الدستور يسقط جلاد الشعب" تقلص سقفها بفعل المسار الانتقالي وما عرفه من رجات كبيرة أرهقت المطالب الثورية. هذه التراكمات مسنودة بانحسار المدّ الثوري عربيا وخاصة الانقلاب المصري الدامي هي التي دفعت بالمرجعية الثورية إلى مرتبة متأخرة مقارنة بالمرجعيات الأخرى..
فبعض القراءات ـ التي تسم نفسها بالواقعية ـ ترى أن التوافق هو عنوان المرحلة ضرورة لا خيارا وأن الشرعية الثورية لا يمكن لها أن تنسحب على كامل المسار الانتقالي بل هي في السياق العربي الحالي أفضل الخيارات. هذا الموقف البراغماتي هو موقف صائب من حيث المبدأ لكنه في الحالات التونسية يكاد يستعيد المشهد القديم بمخاطر الانزلاق نحو عودة كاملة للمنظومة القديمة باسم التوافق خاصة وأنّ مؤشرات كثيرة تؤكد ذلك.
فالتركيبة الحكومية الأخيرة بمجموع الأسماء التي تضمنتها ـ والتي تحمل عظيم الروابط مع النظام القديم فضلا عن كون بعض الحقائب السيادية قد أسندت لرجال مفاتيح في حكم بن علي ـ تمثل مؤشرا حقيقيا على عودة المنظومة السابقة. مخاطر الانزلاق كثيرة خاصة وأن المشهد التونسي ليس مشهدا محكوما داخليا بقدر ما يمثل في أغلب الحيان ترددا لصدى الوقائع الأخرى في المنطقة العربية عامة وفي الجوار الإقليمي كذلك وتحديدا في ليبيا التي تمثل محرار حقيقيا لقياس استقرار المشهد السياسي والأمني التونسي.
واقع الحريات الفردية لا يخلو هو الآخر من تجاوزات خطيرة أحيانا تصل إلى حدود اعتقال المدونين وسجن النشطاء وتهديدهم فضلا عن حالات التعذيب الكثيرة التي سجلتها المراصد الوطنية المختصة في هذا المجال. أما أمّ القضايا المفاتيح في المشهد التونسي فتبقى القضية الاقتصادية التي تأثرت بشكل عميق من السنوات الخمس الأخيرة التي تمثل عمر المسار الانتقالي التونسي حيث أصيب القطاع السياحي في المقتل بعد الهجمات الإرهابية الدامية كما دمرت آلاف الاعتصامات والاضرابات التي قادتها النقابات العمالية كل الفرص القادرة على تأمين المسار الانتقالي اقتصاديا كما كبدت الخزينة الوطنية خسائر كبيرة ترجمت في شكل قروض لصالح البنوك الدولية والمؤسسات المالية المرتبطة بها.
كل هاته المؤشرات والرجات التي عرفها المسار الانتقالي تسببت في تأزيم الوضع العام بالبلاد والدفع به نحو ذروة الاحتقان بشكل تحول معه الحل الوفاقي إلى أنسب الحلول لتجاوز المطبات القادمة. لكن ما لا يذكره الجميع ضمن المكون السياسي للأزمة هو دور النخب التونسية نفسها في وصول الثورة التونسية مهد الربيع العربي إلى هذه المرحلة التي صارت تطالب بأخف الأضرار بعد أن كان السقف الثوري فيها مرتفعا جدا.
لم تتخلص النخب التونسية من ثلاثة قيود لا زالت تمنعها من بلوغ النضج السياسي الحقيقي وهي أحقادها القديمة التي تعود إلى مرحلة بن على ثم ارتباطاتها الخارجية وولاءاتها الأيديولوجية ثم تكالبها القديم المتجدد على السلطة بشكل يضع الوطن أمام رهانات خطيرة في كثير من الأحيان.
إذا كان التوافق التونسي مدخلا لاستقرار سياسي يمنع عودة الاستبداد بشكل لا رجعة فيه فقد خطت تونس خطوة عملاقة إلى الأمام. أما إذا كان التوافق واجهة لتجميل مرحلة جديدة في المسار الانقلابي الناعم على الثورة التونسية فإن الشرعية التوافقية لن تلبث أن تتبخر لتستعيد الشرعية الثورية مكانها بشعارات ثورة 17 ديسمبر التي لا تنازل عنها.