لم تكد ترفع الدول العظمى والأمم المتحدة العقوبات عن
إيران، حتى هرولت دول أوروبية مسرعة إلى البلد الغارق في انتهاكات
حقوق الإنسان، لتحجز مقعدا لها في البلد المتعطش للاستثمار الأجنبي.
واللافت أن فرنسا، الدولة التي كانت تتبنى الموقف الأكثر حزما من رفع العقوبات عن إيران، هي التي ستحظى بحصة الأسد على ما يبدو من الاتفاقيات التجارية، حيث تنوي طهران عقد اتفاق لشراء 114 طائرة إيرباص إلى جانب صفقات أخرى خلال زيارته لها.
وفي لعبة المصالح، يبدو أن
أوروبا تقدم العقود التجارية على المبادئ في تعاملها مع إيران، بعد خروج الأخيرة من عزلتها الدولية.
نفاق إيطالي
وفي أول زيارة له إلى أوروبا، توجه الرئيس حسن روحاني إلى إيطاليا، ليكون أول رئيس إيراني يزورها بعد محمد خاتمي في 1999 ويتلقي مسؤولين فيها، لتكون الانطلاقة من البلد الذي طالما تبنى موقفا أقل تشددا من إيران مقارنة ببريطانيا وفرنسا على سبيل المثال.
ومن إيطاليا بدأ النفاق الأوروبي، حيث قامت السلطات الإيطالية بتغطية جميع التماثيل العارية في البلاد، خوفا من خدش حياء الرئيس "المعمم" الذي فضل الانطلاق من إيطاليا إلى باقي أوروبا.
وتمت تغطية التماثيل الكلاسيكية العارية في متحف كابيتوليني، حيث التقى برئيس الوزراء ماتيو رينزي، وأشهرها تمثال فينوس الذي يعود تاريخه إلى القرن الثاني قبل الميلاد، كما أنه منع تقديم النبيذ أثناء الغداء مع الرئيس سيرجيو ماتاريلا والعشاء مع رينزي.
وقال مصدر بالحكومة الإيطالية، إن الشركات الإيطالية ستوقع اتفاقيات تجارية مع إيران بقيمة تتراوح بين 15 و17 مليار يورو خلال زيارة روحاني لروما.
ومن أبرز العقود التي وقعتها طهران مع روما، صفقة مع مجموعة "سايبم" المتخصصة في الخدمات النفطية، وشركة الصلب الإيطالية "دانيلي"، إلى جانب عقود أخرى تتعلق بالتنقيب عن النفط، وبناء المصانع والسفن وسكك الحديد.
العمامة في حضرة الصليب
وبعد التجارة يأتي الدين وليس قبلها، إذ زار روحاني البابا فرانسيس في ما يشبه القمة الدينية، حيث طغى الطابع الروحي على الزيارة التي استمرت لـ40 دقيقة، وتعرض البابا بالتأكيد إلى دور إيران في إحلال السلام ومنع انتشار الإرهاب.
وتبادل البابا والرئيس الإيراني، الهدايا، حيث تلقى البابا سجادة صغيرة صنعت في مدينة قم في جنوب طهران وكتابا كبيرا عن الرسم الإيراني.
أما هدية روحاني فكانت ميدالية للقديس مارتن المعروف بأعماله الخيرية مع المحرومين. وقال لروحاني: "إنها تمثل مارتن الذي نزع معطفه وألبسه لرجل فقير. إنها رمز للأخوة بلا مقابل".
وقدم إليه أيضا نسختين من رسالته العامة "كن مسبحا" باللغتين الإنكليزية والعربية نظرا لعدم وجود نسخة بالفارسية.
ولم يعلق البابا على التقارير الحقوقية الأخيرة الصادرة حول الانتهاكات في إيران، مستحضرا كلمات الكتاب المقدس "إِن كانت خطاياكمْ كَالقرمز تَبْيَضُّ كَالثلج".
تنازلات فرنسية
أما فرنسا، فقد تبنت موقفا متشددا من الاتفاق
النووي مع إيران، وزار رئيسها فرانسوا أولاند السعودية وشدد من هناك على ضرورة أن لا يزعزع الاتفاق الأمن والاستقرار في المنطقة أو يهدد دول الجوار.
والتقى أولاند بالعاهل السعودي، الملك سلمان، لمدة ساعة بعد تناول العشاء في قصره. وناقش الرجلان الدور الإيراني في اليمن وسوريا، وأكدا عدم وجود مستقبل لرئيس النظام السوري بشار الأسد.
غير أن فرنسا أبدت موقفا أكثر ليونة لاحقا، من العقوبات على إيران، ومن بقاء رئيس النظام السوري كجزء من الحل، إذ توجه وزير الخارجية الفرنسي لوران فابيوس إلى طهران، ليكون أول من يزورها منذ 12 عاما، ونقل خلال الزيارة دعوة الرئيس الفرنسي إلى نظيره الإيراني لزيارة باريس.
وصرح فابيوس من هناك بأن فرنسا تأمل في أن تبرم اتفاقات في قطاع الأعمال مع إيران، فور رفع العقوبات. وصرح بأن موقفه المتشدد خلال المحادثات النووية لن يقف في طريق الفرص المتاحة أمام الشركات الفرنسية لإبرام اتفاقات، مؤكدا أن مئات رجال الأعمال سيزورون إيران.
ومن المتوقع أن تشهد زيارة روحاني إلى باريس، توقيع عقود تجارية مهمة على غرار ما حصل في روما. وأعلنت طهران أنه سيتم في العاصمة الفرنسية توقيع اتفاق كبير مع عملاق الطيران الأوروبي "إيرباص" يشمل 114 طائرة.
ويتوقع أن توقع شركة "توتال" الفرنسية عقودا كبيرة مع طهران، كما أنه ترغب شركتا "رينو" و"بيجو" في العودة بقوة إلى السوق الإيرانية، وتأمل "سيب" الفرنسية بتصنيعها الأجهزة المنزلية في تجديد الصفقات المليونية التي اعتادت عليها قبل العقوبات.
ويرافق روحاني في جولته الأوروبية وفد من مئات رجال
الاقتصاد، بالإضافة إلى وزراء الخارجية والنفط والنقل والصناعة والصحة.
التجارة وحقوق الإنسان
وتجاهل الأوروبيون على ما يبدو، التقرير الأخير لمنظمة العفو الدولية التي قالت إن إيران هي أكثر دولة في العالم تعدم المتهمين الذين يدانون بجرائم ارتكبوها وهم قاصرون، إلى جانب التعذيب وسوء المعاملة لإجبار القاصرين على الاعتراف.
وقالت المنظمة الحقوقية إن إيران على "رأس القائمة العالمية القاتمة لإعدامات القاصرين"، حيث تم تسجيل 73 عملية إعدام بين 2005 و2015، بينها أربعة على الأقل العام الماضي.
أما "هيومن رايتس ووتش"، فقالت في التقرير العالمي 2016، إن قوات الأمن والمخابرات هما أكثر من انتهك حقوق الإنسان في إيران في 2015. وسُجل ارتفاع كبير في عمليات الإعدام مقارنة بالسنوات السابقة، حيث أعدمت إيران أكثر من 830 سجينا.
وعرجت في تقريرها على الانتهاكات التي تمارسها الدولة بحق النساء، والأقليات الدينية، والمهاجرين.
الصحافي والكاتب عبد الباري عطوان، رأى في التقارب الأوروبي الإيراني المستعجل إسقاطا للتهم عن إيران، كما أسقطت سابقا عن ليبيا من أجل الوصول إلى أرصدة القذافي، وكما أسقطت عن السعودية مقابل صفقات سلاح، لكي تبيع أوروبا منتجاتها في إيران، معتبرا أن حقوق الإنسان فزاعة أوروبية لتحصيل العقود التجارية.
وفي حديث له على فضائية "DW" الألمانية، علل عطوان الهرولة الأوروبية إلى إيران بأنها بحث عن سوق جديد "بكر" بعد أن حلب الغرب "الضرع الخليجي" كاملا.
وقال إن أوروبا تقدم العقود التجارية على مبادئ حقوق الإنسان، وإن البابا نفسه بارك الزيارة، وهذا يعطي انطباعا بأن هناك مباركة دينية من الفاتيكان لإيران والنظام الإسلامي هناك، وتصريحات البابا تعني اعتمادا للدور الإيراني في المنطقة.
وأكد عطوان أن الخليج تفاجأ من التبدل الكبير في الموقف الفرنسي، على مستوى الاتفاق النووي وعلى مستوى وجهة النظر حول الأزمة السورية.
ولفت إلى أن أموال الخليج لم تعد تغري الغرب، إلا في صفقات السلاح، لأن البنية التحية فيه جاهزة، ودول الخليج غير مهتمة بصفقات كبيرة كالتي تحتاجها إيران بعد 30 عاما من الحصار والعقوبات.