لم يعد خافيا على أحد أن الثورة المصرية لا تواجه مجرد قوى محلية ناصبتها العداء منذ لحظات انطلاقها الأولى، ولكنها تواجه قوى إقليمية ودولية وأجهزة مخابرات عالمية تكاتفت جميعها لقتل هذه الثورة التي كانت ستصبح مشعل الحرية والتطور في المنطقة كلها، وهذا مالا تريده قوى الاستكبار الإقليمي والعالمي الحريصة على بقاء المنطقة في درجة من الضعف والاستبداد تمكن تلك القوى من تصريف منتجاتها وفرض أجنداتها بتنسيق كامل مع حكام طغاة لا يهمهم سوى بقاءهم في السلطة بأي ثمن.
لكن معرفة هذه الحقيقة ليست دافعا للإحباط أو التراجع عن استكمال الثورة ومواجهة قوى الثورة المضادة في الداخل والخارج بل هو دافع إلى حسن إدارة المعركة، وحسن إدارة الموارد المتاحة والمحتملة، وإعداد العدة ما استطعنا، ولن يكلف الله نفسا إلا وسعها، وكما أثبتت الكثير من التجارب التاريخية فإن النصر لم يكن رهنا لتكافؤ القوى ولكنه كان دوما صنوا للأخذ بأسبابه، ومن ذلك بذل كل جهد ممكن في إعداد العدة وتمتين الصفوف وتعزيزها، وتشتيت جبهة العدو وتخذيلها.
بعد مرور ما يزيد عن العامين ونصف العام على الانقلاب العسكري، نجح صمود الثوار في الشوارع في إرهاق هذا الانقلاب وإضعافه، وإشعاره بالخطر دوما، وهو ما أربك هذا النظام ودفعه للاعتماد بصورة أكبر على قواه الأمنية بعد أن يئس من الظهير الشعبي الذي صدم بالأوهام التي ساقها له قائد الانقلاب.
ومع ضعف هذا النظام الذي أصبح باديا للعيان، يتساءل الكثيرون: لماذا لم نتمكن من إسقاطه حتى الآن؟ والإجابة هي أنه إذا كان النظام ضعيفا فإن جبهة المقاومة ضعيفة أيضا، ومع أنها حققت تلك النجاحات الجزئية في إرهاق النظام إلا أنها بوضعها الحالي غير قادرة على إسقاطه حيث تبدو الصورة صراعا بين الحكم العسكري وبين التيار الإسلامي، وفي القلب منه جماعة الإخوان التي لم تعد جماعة واحدة أيضا.
وقد عمل النظام عبر أذرعه الإعلامية والسياسية والثقافية والفنية على تثبيت هذه الصورة التي تخدمه وتمد في عمره وتدفع بعض القطاعات للتعاطف معه أو على الأقل عدم مقاومته؛ لأن البديل يبدو في نظرها أسوأ، وإذا كنا قد تعرفنا على أحد مكامن قوة النظام ومن ثم ضعف معارضيه، فإن الواجب يقتضي سرعة التحرك لسد هذه الثغرة وعلاج هذا الضعف، وذلك بالسعي لاستقطاب جمهور أوسع من أطياف وفئات الشعب المختلفة (عمال فلاحين طلبة محامين إعلاميين فنانين مهنيين إلخ)، وحتى يمكن جذب هذه الفئات التي تعاني الآن ويلات الانقلاب سواء في جنون الأسعار، أو للإهانة على يد الشرطة، أو تزايد البطالة، أو غياب الخدمات الأخرى، فإن هذا يحتاج إلى خطاب ثوري يختلف عن الخطاب الحالي الذي يختزل الثورة كلها في قضية واحدة وهي قضية الشرعية.
وهذا لا يعني البتة إنكارا لشرعية الرئيس مرسي، لكنه يعني وضع قضية الشرعية في موضع مناسب بين قضايا الثورة، وهموم الشعب الأخرى، فالشرعية هي جزء من كل، وهموم الناس المعيشية والإنسانية كثيرة، وحين يركز الخطاب الإعلامي على قضية الشرعية فقط، فإنه لا يصل سوى لأنصار الشرعية، علما أن ليس كل انصار الشرعية إيجابيون ومشاركون في الحراك الميداني، وهذا من طبائع الأمور، أما حينما يتسع الخطاب الإعلامي والسياسي إلى هموم المواطن الأخرى والتي تضمنتها شعارات الثورة (العيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية)، فإن فرص الوصول إلى قطاعات شعبية جديدة ستكون أكبر بالتأكيد، وسيتحرك جزء كبير من هذه القطاعات الشعبية دفاعا عن لقمة عيشه وعن حريته وكرامته، وسيكون ذلك بمثابة مدد جديد للثورة والثوار يخرجهم من معادلة عسكر وإسلاميين إلى معادلة سلطة انقلابية في مواجهة شعب متحفز.
في السعي لاستقطاب قطاعات جماهيرية جديدة لصف الثورة لا يصح أن تستمر لغة التخوين لشركاء الثورة والمصير وخاصة الذين دفعوا أثمانا باهظا مثل غيرهم من أنصار الشرعية، واضطروا إلى ترك وطنهم، وصودرت أموالهم، لأن هذا التخوين فوق كونه منافيا لأبسط القواعد الشرعية والثورية فإنه أيضا يغلق الباب أمام العائدين من معسكر 30 يونيو إلى رحاب الثورة مجددا، كما يغلق الباب أمام المتضررين من حكم العسكر من غير المسيسين وبالتالي يفقد الثورة جمهورا جديدا وزخما قويا هي بمسيس الحاجة إليه.
وفي السعي إلى توسيع جماهير الثورة ينبغي للقوى الثورية أن تتجنب مواطن الخلاف، وتركز في المشتركات وفقا للقاعدة الذهبية "نتعاون فيما اتفقنا فيه ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه"، مع استمرار الحوار حول القضايا الخلافية بروح ملؤها إخلاص النية لله، والوفاء للثورة والشهداء، وحين تتوفر تلك الروح فمن المؤكد أن القدرة على الوصول إلى توافقات سيصبح أمرا ممكنا، وبطبيعة الحال فإن القضايا التي تجمع القوى الثورية المختلفة كثيرة، ومنها ملفات المعتقلين والمعتقلات، والتصفيات الجسدية، وانتهاك الكرامة الإنسانية في أقسام الشرطة، والكوارث الاقتصادية، والمطالب المعيشية.
وفي السعي إلى توسيع قاعدة جماهير الثورة ينبغي حمل هموم الناس ومطالبهم، وعدم اختزال الثورة في مطلب واحد يصبح مقياسا لمن هو ثوري ومن هو غير ذلك، وعدم المزايدة على رفقاء الدرب بقضية الشرعية التي أصبحت كقميص عثمان يرفعه البعض في وجوه زملاء يفوقونهم حبا وإخلاصا للرئيس
محمد مرسي، ويرفعونه في وجوه كل من يريد العودة إلى صفوف الثورة طالبين منه التوقيع أولا على صك الشرعية، ويتجاهل هؤلاء أن إعادة الشرعية لن تكون إلا بانتصار ساحق على الانقلاب وهو ما يحتاج إلى تحريك قطاعات أوسع من الشعب وهو ما يحتاج بدوره لتعديل في الخطاب الإعلامي والسياسي كما اشرنا سابقا.
وفي السعي إلى توسيع القاعدة الجماهيرية للثورة ليس مقبولا من كيان أيا كان اسمه أن يحتكر الحديث باسم الثورة، وأن يعتبر نفسه ممثلها الحصري والوحيد، وأن من أراد اصطفافا فليلحق به دون قيد أو شرط، فالثورة تتسع للجميع، هكذا كانت، وهكذا ستظل.
سينبري البعض للرد بأن جهود الاصطفاف السابقة فشلت في اجتذاب أي قوة جديدة للحراك على الأرض الذي ظل قصرا على الإخوان وأنصارهم من القوى الإسلامية، وبالتالي فإن بذل مزيد من الجهد في هذا الهدف هو إهدار للجهد والوقت وانتظار ما لن يأتي أبدا، وأقول لهؤلاء إن كلامكم صحيح من ناحية عدم انضمام قوى جديدة للحراك على الأرض، لكن من قال إن الحراك الميداني هو الوجه الوحيد للعمل الثوري؟!
هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن حديث الاصطفاف ليس موجها فقط للحركات الثورية التقليدية التي تستعصي حتى الآن على هذا الاصطفاف خوفا أو طمعا أو تأويلا، ولكنه موجه بالأساس لقطاعات شعبية كبيرة اكتوت بنار حكم العسكر وتريد الخلاص منه، وهذه الجماهير تعبر عن غضبها بطرق مختلفة، إضرابات عمالية أو اعتصامات، أو عصيان مدني جزئي، كما أن بعض المجموعات قد تتعاون مع بعضها في ملفات حقوقية مثل المعتقلين والاختفاء القسري والقتل خارج نطاق القانون والملاحقات القضائية الدولية لرموز النظام، ولا يمكننا أن نتجاهل أن عددا من رموز 30 يونيو الذين اكتشفوا الخديعة قد لحقوا فعلا بمعسكر رافضي الانقلاب وتركوا مصر مؤخرا بطرق قانونية أو غير قانونية.
كل هؤلاء سيمثلون زخما جديدا للعمل الثوري، ومرة أخرى لا يشرعن أحد سيفه في وجوهنا ووجوه هؤلاء الوافدين داعيا إياهم للتأخر إلى الخلف وعدم تصدر المشهد، فهذا ما لا يملكه أحد، بل إن التقدم أو التأخر سيكون حسب العطاء الثوري، وليس حسب الأقدمية، ولا ننسى قول رسولنا الكريم "خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا" مع الأخذ بالاعتبار أننا نتحدث عن مسلمين مثلنا، ولنا في قصة خالد بن الوليد عبرة، فقد قتل الكثير من المسلمين قبل إسلامه، لكنه أصبح قائدا للجيش بعد إسلامه بقليل، ولقبه الرسول صلى الله عليه وسلم بسيف الله المسلول، فهل نحن أكثر فهما من رسول الله وصحابته؟!