لم أتفاجأ حين علمت أن راتب أمين الشرطة يفوق راتب الطبيب، فمهمة تلك الدولة الوظيفية التي صُنعت في ورش المخابرات الأمريكية -كما كررت مرارا قبل ذلك- هي منع الشعب من الثورة، وتثبيت حكم العصابات العسكرية.
ارجع إلى كتاب لعبة أمريكا الكبرى، وإلى كتاب لعبة الأمم الشهير الذي كتبه ضابط
السي آي إيه السابق، ستجد أن طاقم المخابرات الأمريكية الذي كان مقيما في القاهرة استدعى ضابطين أمريكيين، أحدهما من شرطة نيويورك، والآخر عمل بالمباحث الفيدرالية؛ للإشراف على هيكلة الداخلية لاستكمال منظومة القمع لنظام غفيرهم عبد الناصر.
بل إن عبد الناصر نفسه، قبل تعيينه في منصب رئيس الوزراء سنة 1954، تولى منصب وزير الداخلية لمدة 118 يوما سنة 1953، وتولاه من بعده زميله زكريا محيي الدين، الذي عينه بعدها مديرا للمخابرات العامة، وهو ما يكشف لك حرص عصابة ضباط يوليو 52 على توجيه وزارة الداخلية التي تعمل خط دفاع أول ضد الشعب في منظومة الدولة الوظيفية التي أنشأها الاحتلال.
وفي حين تتماس الداخلية تماسا مباشرا مع الشعب، وتعمل على قمع أي بوادر تمرد، فمهمة الجيش الرئيسية هي حماية الحدود، وهو لا يفعل أكثر من ذلك.
نعم، لم تخطئ القراءة، فالجيش
المصري يحمي الحدود فعلا، ولم يتخل عن تلك المهمة منذ إعادة هيكلته على يد اوتو سكورزيني الضابط الألماني (بالمناسبة أشرف سكورزيني هذا على هيكلة الجيش والمخابرات، ولم يكن سوى عميلا للموساد).
مهمة ذلك الجيش هي الإبقاء على الحدود التي نحتها الاحتلال البريطاني على الخريطة، والحفاظ على أمن الكيان الصهيوني، وهو ما اعترف به أكثر من مرة بعض موظفي تلك المؤسسات، فقد اعترف وكيل المخابرات العامة الأسبق مثلا أن مهمة المخابرات والجيش هي حماية أمن الكيان الصهيوني، بل اعترف بذلك شاويش الانقلاب نفسه في حديثه لصحيفة كورييري ديلا سيرا الإيطالية قبل رحلته إلى إيطاليا.
المهمة الثانية للجيش المصري، حسب السوفتوير الأمريكي، هي العمل كقوات شرطة ضد الشعب في حالة تمرده، إن عجزت الداخلية عن مواجهته.
وهو ما بدا واضحا في أحداث 28 يناير حين حاولت بعض مدرعات الجيش الاعتداء على الثوار، فقاموا بإحراقها، وحين قامت عربات جيب تابعة للشرطة العسكرية بإمداد الشرطة بالذخيرة الحية حين نفذت ذخيرتها، اضرموا فيها النار هي الأخرى، واستولوا على دبابة حسب شهادات كثير من الشهود.
وهو ما بدا أيضا واضحا من الغارات الجوية التي تقوم بها طائرات الإف 16 على منازل المصريين في سيناء والقصف المدفعي العنيف على المدنيين على مدار الأسبوع.
مجزرة رابعة هي الأخرى توفر لمحة مهمة عن دور الجيش في كتيب التعليمات الأمريكي، حيث قامت تشكيلات من الجيش بمؤازرة عصابات الداخلية أثناء المجزرة، والتقط بعض ضباطهم صورا باسمة على سبيل التذكار بعد حرق المسجد وقتل المعتصمين وحرق جثامينهم.
ذلك الدور الذي تلعبه تلك المؤسسات الوظيفية، والذي يختفي تحت جبل من الدعاية عن الانتصارات والمعارك الوهمية، هو ما يجعل راتب أمين الشرطة يفوق راتب الطبيب.
فالصورة التي لا يدركها كثيرون حتى الآن هي أن الشعب المصري محبوس في أرضه، مطوق من جهات أربع، بحدود نحتها ضباط بريطانيون من ممتلكات الخلافة، ووضعوا في القلب منها الكيان الصهيوني، ثم قامت المخابرات الأمريكية بتعيين مجموعة جديدة من الغفر لحماية تلك الحدود ورعاية أمن الكيان الصهيوني الوليد والدفاع عنه من الشعوب المسلمة المحيطة به.
المقارنة العددية البسيطة بين عدد سكان الكيان الصهيوني وعدد سكان مصر وسوريا، ومراجعة تاريخ الهزائم والتحالفات السرية واتصالات عبد الناصر بالكيان الصهيوني، وعروض السادات لتوصيل مياه النيل إليهم عبر سيناء، وإخلائه لسيناء من السلاح، وترتيبه لتمثيلية أكتوبر، ثم من بعدها فترة حكم الكنز الاستراتيجي مبارك صديق شارون وبنيامين بن اليعازر، ثم تصريحات الوزير الصهيوني الذي اعترف أن أمين شرطة الانقلاب في مصر يغرق حدود غزة، بناء على طلبهم، تجعلك تدرك هذه الحقيقة ببساطة.
ويجعلك تدرك لماذا يزيد راتب أمين الشرطة عن راتب الطبيب؛ لأنك ببساطة تعيش في منطقة محاطة بسور اقتطعت من دولة الخلافة، ويتولى مسؤولية حراستها مجموعة من أمناء الشرطة الذين عينتهم السي آي إيه.