في خمسينيات القرن السابق أثناء موجات "التحرر الوطني" كما قالوا لنا؛ حاول الدكتور مصدق رئيس وزراء
إيران أن يستقل بإيران استقلالا حقيقيا، فقام بتأميم النفط وأجرى بعض الإصلاحات الاجتماعية ورحل الشاه الأول إلى إيطاليا بعد أن بدأت الأمور تفلت من يده، إلا أن أصحاب الأموال والقوى الدولية وعلى رأسها أمريكا استطاعت تدبير انقلاب عسكري على الدكتور مصدق وأعادت الشاه إلى الحكم.
وكانت الحجة الرئيسية أن مصدق شيوعي؛ يبدو أن هناك دائما حجة ما للانقلاب عليك؛ فإذا لم تكن شيوعيا فأنت إسلامي؛ المهم أن يُطاح بك لصالح من أصبحوا امتدادا للاحتلال؛ سواء كان شاه إيران أو جنرال
مصر مهما كانت أسماؤهم.
هذه الجولة الثانية الفاشلة في ثورة إيران الممتدة؛ إلا أنها انتهت نهاية درامية شديدة العنف في سبعينيات القرن الماضي؛ عندما استطاع الشعب الإيراني الالتفاف حول القيادة الإسلامية الشيعية؛ والملاحظ أن كل القوى اليسارية والليبرالية التفت حول القيادة الشيعية ربما لإدراكهم بالخبرات التاريخية التي تشير إلى أن من أهم عوامل نجاح الثورات الكبرى وجود مجموعة من الأفكار الكلية قد ترتقي إلى أن تكون أيديولوجية؛ وبالتالي تحرك حزب توده الشيوعي ومجاهدي خلق مريدي علي شريعتي، تحركوا جميعا خلف
الخميني المنفي في العراق ثم فرنسا.
استمر ضغط الشارع الكبير على القيادة السياسية وسط تحريض متتابع من الخميني القابع في فرنسا؛ ووفرت بريطانيا هيئة الإذاعة البريطانية للخميني ليبث رسائله بالفارسية؛ ولم يتراجع الشعب الإيراني أمام القمع الهائل للسافاك "نسخة أمن الدولة الإيراني" ولا أمام تنازلات الشاه المتتابعة، استمر في نضاله حتى أجبر الشاه على الرحيل بعد أن وصلت الصدامات والمقاومة الشعبية إلى مرحلة لا يمكن السيطرة عليها.
غادر الشاه إيران؛ واندلعت المظاهرات تطالب بعودة الخميني الزعيم الثائر ووصل الخميني إلى طهران في الأول من فبراير/شباط عام 1979 وسط استقبال أسطوري؛ وتشير بعض التقديرات إلى وجود 6 ملايين إيراني في استقباله.
لم تتوقف
الثورة عند تلك النقطة؛ فقد غادر الشاه إيران ولكن بقي نظامه كاملا؛ وأدركت الثورة ذلك الأمر منذ البداية ولم تنخدع بإعلان الجيش الإيراني أنه على الحياد؛ فقد أدرك الخميني وقيادات الثورة أن اقتلاع النظام يلزم اقتلاع كافة أدواته وعلى رأسها المؤسسة العسكرية ومؤسسة الأمن التي كانت الأذرع القذرة للنظام الإيراني بل وهي الذراع القذرة لأي نظام سياسي قمعي عميل لا يأبه بشعبه ولا بحقوقه.
بدأت المواجهات المباشرة مع أذرع النظام لاجتثاثه تماما وسيطر الثوار على الوحدات العسكرية وحاكموا القيادات محاكمات ثورية بعد أن سيطروا على الأسلحة وحدثت مواجهات دموية مع الجيش الإيراني واستطاعت المقاومة السيطرة على الجيش وخرجت القيادات تعلن استسلامها للثورة.
هكذا استطاعت إيران الخروج من النظام الذي صنعه الغرب بعد الحرب العالمية الثانية؛ وقامت بعد صمود وإصرار أسطوري وقيادة مدركة ما تعنيه الثورة بإنشاء نظام جديدا للحكم " بصرف النظر عن رأينا فيه" ولكنه كان نظاما ناتجا من داخل الشعب الإيراني على الأقل في فترة ما بعد الثورة.
هذه المشاهد السريعة والمتناثرة من الثورة الإيرانية تشير إلى عدة حقائق ينبغي إدراكها قبل الحديث عن عمل ثوري، أولها ضرورة "الاصطفاف" حول أفكار محددة وواضحة؛ اصطفاف حول إطار فكري وليس اصطفافا على مفاهيم عامة، فالعدالة والحرية؛ وهما القيمتان الحاكمتان الأكبر في أي منظومة فكرية؛ مفهومهما مختلف بين الاتجاهات الفكرية المختلفة؛ فالجميع يتحدث عن العدالة والحرية؛ إلا أن مفهومهما مختلف بين "المصطفين" وإذا لم يُتفق على مفهوم واحد فلا حديث عن ثورة، والثورات في إيران وفرنسا وروسيا خير دليل على ذلك.
الحقيقة الثانية هو ضرورة وجود قيادة ثورية مدركة لأبعاد الثورة وحتمياتها ولا تخلط الثوري بالسياسي فتقتل الاثنين معا فتموت الثورة وتموت السياسة؛ وربما الحالة المصرية تعد نموذجا مثاليا لهذا الخلط البائس.
والحقيقة الثالثة أن النظام ليس رأسه فقط؛ فقد رحل الشاه كما رحل حاكم مصر إلا أن النظام السياسي إذا لم يعاد بناؤه كاملا فهو قادر على إعادة إنتاج نفسه في صورة تكون أكثر قسوة في أغلب الأحيان ويعود محطِّما الثورة وكل ما له علاقة بها. فإما أن تجتث الثورة "الثورة المضادة" أو تفتك الثورة المضادة بالثورة؛ فهما نقيضان غير قادرين على الحياة سويا.
إن الاختلاف الحالي مع النظام الإيراني والذي يصل إلى حد العداء الأيديولوجي والعقدي لا يمنعنا من الاستفادة من التجربة الإيرانية في ثورتها الكبرى حتى نستطيع عبور الحاجر الكبير الذي دائما ما يعطل استمرار الثورة في مصر وربما يكون الاحترام المفرط "للدولة" إذا صح أننا نمتلك دولة ونظاما؛ أحد أهم تلك الحواجز.