أعلنت المرجعية الشيعية الدينية بالنجف تخليها عن الخطبة الثانية في صلاة الجمعة، التي فصحت فيها عن موقفها إزاء ما يجري بالعراق، ولم يكن بعيدا عن تطلعات العراقيين في دولة قانون فعلا لا قولا، آمنة مِن الإرهاب والمحاصصة الطَّائفية، وكلّ هذا ما زال مرتبطا بالفساد المالي والإداري وتبوء غير الأكفاء المناصب الخطيرة.
بلا شك ساهمت المرجعية، بشكل أو آخر، بوجود المحاصصة، يوم اندفعت لمباركة تشكيل كتلة شيعية، مقابل كتلة سُنية، وتسرعت بالإلحاح على كتابة الدستور، بنسخته المشوهة، وهذا التشخيص ليس لي إنما لمتخصصين في القوانين والدساتير، لكنها انتبهت سريعا، وأخذت تؤكد عن طريق وكلائها على المواطنة، ونقد الفساد والفاسدين، وبعد هذه السنين الطويلة (13 سنة) لم تستطع زعزعة الخراب، فأخذت تُحرج أمام النَّاس، فكلمتها لم تعد مسموعة، مثلما سمعت تلك الأحزاب رأيها في تشكيل كتلة على أساس طائفي، فليس مثلما يتصور البعض أن الحل والعقد بات بيدها.
فإذا الثورة الإيرانية أسكتت المرجع الأكبر محمد كاظم شريعتمداري (ت 1985)، وحجزته في داره حتى وفاته، وكذلك فعلت مع المرجع العربي محمد طاهر الخاقاني (ت 1985)، فما المانع أن يتكرر المشهد مع مراجع النَّجف، وفي مقدمتهم آية الله علي السيستاني؟ وبأسلوب آخر، إذا ما استمروا بتعرية الفساد والخراب! كتقديم المرجع الحزبي كالشاهرودي والحائري مثلا، وبما أن مراجع النجف غير منسجمين مع ولاية الفقيه المطلقة الإيرانية، فستتولى إيران الثورية معالجة الأمر.
نضع الاحتمالين «الملل» و«الاحتجاج» لصمت المرجعية المفاجئ، مما أفرح وسر الأحزاب الدينية، التي كفت عن الدعوة إلى مرجعية رشيدة وناطقة مع ثلب مرجعية النَّجف (الساكتة)، كانت تلك الدعوة أيام المعارضة، لكن بعد تمكنها مِن السُّلطة لا حاجة لها بالرشيدة النَّاطقة، وبهذا أخذت تلعب دور النظام الذي عارضته، وهذا ما مارسته مِن سكوت وتأييد لاعتقال المرجع شريعتمداري وإذلاله، وسمعنا من الأحزاب الدِّينية أنه كان متآمرا ضد الثَّورة الإسلامية فنال جزاءه. بينما لو فعلها نظام الشَّاه بأحد المراجع لقامت الدّنيا ولم تقعد دفاعا عن علماء ومراجع المذهب، ولا نستبعد أن يجري ذلك مع السيد السيستاني وبقية المراجع الغاضبين مما يحصل، وما هتافاتهم السابقة كـ: «تاج تاج على الراس سيد علي السِّيستاني»، وتعليق صوره في مواسم الانتخابات إلا لغاية، ولمحمد مهدي الجواهري في موقف مشابه: «وما الدِّين إلا آلة يشهرونها/ إلى غرض يقضُونه وأداة» (قصيدة الرَّجعيون 1929)، ومنها ما يعبر تماما عن واقع الحال اليوم: «ألمْ ترَ أنَّ الشْعبَ جُلُّ حقوقهِ/ هي اليومَ للأفرادِ مُمتلَكاتُ؟».
يحسب مراجع الدِّين حساب مقلديهم، عندما يؤيدون أو يشجبون، وهم الأكثر حرصا على نفاذ فتاواهم، خشية على الحظوة والمنزلة، فالعديد منهم امتنع عن التصريح ضد ممارسات العوام في المناسبات الدينية، لعدم الأخذ بها، فقررت الصَّمت بعد الشعور بملل الجمهور، ومللها مِن تكرار خطابها الناقد بلا نفاذ. كذلك يمكن فهم هذا القرار بالاحتجاج ضد ما يجري، وقد مورس مِن قِبل مراجع سابقين، مثلا بتعليق الدراسة في الحوزة الدِّينية أو الاعتكاف في الدَّار، مما يجعل النَّاس يتساءلون ويحمّلون السُّلطة تبعة ذلك. أقول: كان سكوت المرجعية للأمرين: الملل والاحتجاج، ولا نعلم هل سيثمر ذلك أم لا؟
استبدلت المرجعية خطبتها المعتادة في نقد أحوال السَّياسيين بدعاء الإمام علي بن الحسين السَّجاد (ت 95هـ)، والمعنون بـ«دعاء أهل الثّغور»، ومعلوم أنه موجه لقتال «داعش»، مِن جيش عراقي وحشود وقوى عالمية. وعلى قاعدة الشّيء بالشّيء يُذكر، يُنبيك هذا الدُّعاء عن تسامح الإمام، فمعلوم أنه كان موجها لجيش المسلمين في العهد الأموي، وكان بقيادة خليفة مرواني لا يُعد شرعيا حسب ما تثار حادثة كربلاء والخصومة التاريخية بين الأمويين والعلويين، فبماذا يفسر ذلك؟ أليس الإمام المذكور كان شاهدا على قتل والده وأعمامه وسبي عماته وأخواته، وكاد نفسه يُقتل؟ فكيف يدعو بالسلامة والنَّصر لهذا الجيش؟
أقول: لا يُفسر هذا الدعاء إلا بسماحة الإمام وتعاليه على شعور الثأر، بعد أن قُتل قتلة أهله بكربلاء، ولم يجعله ثأرا أبديا مثلما نسمع اليوم «يا لثارات الحُسين»! جاء في الدُّعاء: «وَحَصِّنْ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ بِعِزَّتِكَ، وَأَيِّدْ حُمَاتَهَا بِقُوَّتِكَ، وَأَسْبغَ عَطَايَاهُمْ» (الصَّحيفة السَّجادية).
أخيرا، مِن حق المرجعية الصَّمت أو الكلام، لكنَّ عليها الإعلان عما ساهمت فيه، ولنقل بحسن نيّة، مِن تأسيس للمحاصصة، والوقوف لصالح هذه الأحزاب في بداية الأمر، والآية تقول: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ»(الأحزاب: 5)، ولا أظن المرجعية قد تعمدت.