رحل عن دنيا الناس يوم السبت 5 آذار/ مارس، المفكر الإسلامي والسياسي
السوداني الدكتور حسن
الترابي، بعد مسيرة فكرية حافلة بالإنتاج الفكري المثير، وصراعات سياسية طافحة بالنشاط السياسي الصاخب. وكما تباينت مواقف الناس منه في حياته، فقد تباينت منه كذلك بعد وفاته.
ففي الوقت الذي ينظر فيه محبوه ومريدوه إليه بعين التعظيم والتبجيل، ويعتبرونه رائد مدرسة في تجديد الفقه السياسي الإسلامي، فقد رأى بعض منتقديه أنه صاحب شذوذات خالف فيها قطعيات النصوص ومعاقد الإجماع، واشتد آخرون منهم في وصفه بالكفر والردة والابتداع، كما وصفه بيان الرابطة الشرعية للعلماء والدعاة في السودان.
كان بيان الرابطة المعنون بـ"هذا بيان للناس عن حكم الشرع في ردة وكفر الترابي"، الصادر عام 2005، الذي كَثُر تداوله بعد وفاته عبر مواقع التواصل الاجتماعي، هو الأشد صرامة في وصفه بالكفر والردة والضلال.
وقد حدد أصحاب تلك الفتوى أسباب إصدارهم لها بإنكار الترابي "للعديد مما هو معلوم من الدين بالضرورة، بنفي ما أثبته الله ورسوله وأجمعت عليه الأمة، أو إثبات ما نفاه الله ورسوله وأجمعت عليه الأمة"، على حد قول البيان.
وبعد ذكر البيان للأقوال المؤدية لردته، "مثل إباحته للردة، ورفعه الكفر عن اليهود والنصارى الحاليين، وانتقاصه للرسل والأنبياء والنيل منهم"… إلى غير ذلك من الأقوال، فقد أشار كاتبوه إلى أن "أدلتها من أقواله، وكتاباته، ومقابلاته موجودة، والشهود عليها أحياء يرزقون، ولها متحملون، ولأدائها جاهزون، والأدلة على كفر قائلها بجانب ما سبق متوفرة..".
إعذار ودفاع
بماذا يدفع محبو الترابي ومريدوه هذه الطعون القادحة في دين المسلم، والمخرجة له من الإسلام، والمطوحة به في مهاوي الكفر والردة والزندقة؟
أوضح أستاذ الأخلاق السياسية وتاريخ الأديان في كلية قطر للدراسات الإسلامية، محمد المختار الشنقيطي، أنه بالاستناد إلى دراسة سابقة له، صدرت سنة 2006، فإنه "وجد قسما كبيرا مما أُنكر على الترابي أمورا اعتقادية أو فقهية منسوبة إليه تحاملا أو عن سوء فهم، وهي: القول بالفناء الحلولي في ذات الله، وإيمان أهل الكتاب، وإباحة الردة والخمر، وإسقاط الخمار".
وأشار الشنقيطي في حديثه لـ"
عربي21" إلى أن آراء الترابي أحيطت بالكثير من اللبس وسوء الفهم من قبل خصومه، نظرا لما تتسم به "كتاباته من التجريد في الأفكار والمصطلحات.. وهي تجمع بين تجريدات (هيغل) الفلسفية ولغة الشاطبي الأصولية، ما يصعب فهمها على غير المتمكنين من ناصية اللغة العربية، والمتمرسين بالمفاهيم الفلسفية والأصولية".
واستعرض الشنقيطي كمثال على تحامل منتقدي الترابي عليه، وسوء فهمهم لكلامه ما نسبوه إليه من أنه يقول "بإيمان أهل الكتاب الحاليين"، رادا ذلك بقوله: "لم يقصد الترابي يوما أن دين أهل الكتاب في حالته الراهنة صحيح مقبول عند الله تعالى، ولا أنهم غير مطالبين باعتناق الإسلام، ولا هو يسوي بين توحيدنا وتثليثهم".
وبيّن الشنقيطي أن "كلام الترابي صريح بكفر أهل الكتاب وبشركهم، واصفا من يظنون الترابي المتضلع بمعاني القرآن بأنه يجهل ذلك، أو لا يقول به مخطئون بلا ريب، ناقلا عنه وصمه لأهل الكتاب بوصمة الشرك ثلاث مرات في صفحة واحدة من كتابه (السياسة والحكم) الصادر سنة 2003، كما أن الترابي وصم أهل الكتاب بوصمة الكفر أكثر من مرة في الكتاب ذاته..".
ونبّه الشنقيطي إلى أن "تمييز الترابي لأهل الكتاب عن المشركين أحيانا بأنه تمييز اصطلاحي، وله أصل في القرآن الكريم، وكذلك تمييزه بين أهل الكتاب والكفار، فهو الآخر تمييز اصطلاحي، وله أيضا أصل في القرآن الكريم، ناقلا عن ابن تيمية ما يؤيد ذلك".
ونفى الشنقيطي بكل ثقة أن يكون الترابي قصد في يوم من الأيام المساواة بين الإسلام وديانات أهل الكتاب الحاليين في التوحيدية أو في الإبراهيمية، مؤكدا تواتر كلامه بنفي ذلك، ناقلا عنه قوله الذي ينفي فيه عن النصارى صفة التوحيدية: "انقطع النصارى عن الرب الواحد بالواسطات الكنسية، وعن أصل دينهم بالمقولات العقدية لمؤتمرات القديسين"، متسائلا: "فهل يقول منصف بعد هذا أن الترابي يسوي بين الوحي الإسلامي الأصيل، والكتابي المحرف الدخيل؟".
وأجاب الشنقيطي عما نسبه خصوم الترابي له من أنه يبيح الردة، قائلا إن "الترابي لم يبح الردة قط، وما يستطيع مسلم أن يبيحها، وإنما قال الترابي كما قال العديد من العلماء المعاصرين وبعض المتقدمين، إنه لا عقوبة دنيوية قانونية على الردة ما لم تتحول إلى خروج سياسي وعسكري على الجماعة".
انتقاد بموضوعية وإنصاف
في السياق ذاته، رأى عميد كلية الشريعة في جامعة الإمام محمد بن سعود سابقا، سعود الفنيسان، بعد اطلاعه على ما قاله مادحو الترابي وذاموه، أن آراء الترابي الشاذة لا تبلغ درجة الكفر، وإنما هي من "شذوذات الأقوال والآراء"، لافتا إلى أن كثيرا من تلك المكفرات التي قيلت عنه، كان يعتمد قائلوها على كلام مبتسر ومقتطع من كلامه.
وأوضح أن أقدر الناس على تقييم أفكاره، والحكم عليها، هم الذين عايشوه وعاصروه وناقشوه في اجتهاداته، خاصة في أواخر حياته، وقد قيل إن له مراجعات سجلها في بعض كتبه، وقالها في بعض أحاديثه، فالمرجو ممن عايشه عن قرب وواكب مسيرته أن يبين حقيقة ذلك كله.
وجوابا عن سؤال "
عربي21" حول مواقف المكفرين للترابي، فقد أكدّ الفنيسان أن مذهب أهل السنة والجماعة واضح في ذلك، فهم لا يكفرون المعين من أهل القبلة، إلا بعد مناقشته في أقواله، وإقامة الحجة عليه، مستذكرا موقف الإمام أحمد في مسألة خلق القرآن، الذي كان يكفر القول بها، لكنه لم يكفر الخليفة القائل بذلك.
من جانبه، فصّل أستاذ الفقه الإسلامي وأصوله في الجامعة الأردنية، عارف حسونة، أن ما صحت نسبته إلى الترابي من الأقوال المأخوذة عليه أنواع: "فمنها ما لا يخالف فيه قطعيا من النص القطعي الثبوت والدلالة، ولا قطعيا من الإجماع، ولا قطعيا من القياس، وهذا يسوغ فيه
الاجتهاد ويعذر فيه المخطئ، ويؤجر ولا يحكم بشذوذه"، ممثلا لذلك بقوله بأن "شهادة المرأة في المعاملات في هذا الزمان مثل شهادة الرجل سواء بسواء".
أما النوع الثاني وفقا لحسونة فهو ما خالف فيه قطعيا من النص، أو قطعيا من الإجماع أو قطعيا من القياس، ومن هذا القبيل قول الترابي بإباحة زواج المسلمة من الكتابي، وإنكاره نزول المسيح عليه السلام، وإنكاره خروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج، فهذا لا يسوغ فيه الاجتهاد، ولا يعذر فيه المخطئ ولا يؤجر، بل يحكم بشذوذه وعدم جواز تقليده، ولكن هل يحكم بكفره أيضا؟
أجاب حسونة بقوله: "الصحيح أن الحكم بكفره تبع لنوع القطعي الذي خالفه: فإن خالف القطعي من الإجماع -كما في إباحة زواج المسلمة من الكتابي- فالذي أراه أنه لا يكفر به؛ لأن العلماء مختلفون في كفر منكر الإجماع القطعي، والصحيح من مذهب الحنفية وبعض الأصوليين من غيرهم أنه لا يكفر؛ نظرا لشبهة الخلاف في حجية أصل الإجماع، ولعدم القطع بعدم المخالف، ومثل هذا يقال بعينه أيضا في مخالفة القطعي من القياس؛ أعني لشبهة الخلاف في حجية أصل القياس رأسا".
وأضاف حسونة لـ"
عربي21": "وإن خالف القطعي من النص -وهو المتواتر سندا قطعي الدلالة- كما في إنكار نزول المسيح وإنكار خروج الدجال ويأجوج، فنعم اتفق العلماء على كفر منكر المتواتر من النصوص قطعية الدلالة، ولكنهم إنما قصدوا بكفره بيان الحكم الشرعي للفعل مطلقا، لا
تكفير الفاعل المعين؛ لأن تكفير المعين يتوقف على أمور منها: مناقشته والإعذار إليه بإقامة الحجة عليه من قبل العلماء".
وتابع حسونة ذكره لموانع تكفير المعين قائلا: "منها: ألا يكون جاهلا أو مكرها، ومنها أيضا: ألا يكون متأولا تأويلا لا يعود على الدين بالإبطال، ولهذا لم يكفر جمهور علماء المسلمين طائفة المعتزلة التي تأولت في إنكارها ما أنكره الترابي من نزول المسيح عليه السلام، وخروج الدجال، وخروج يأجوج ومأجوج".
وبيّن حسونة أن العلماء استدلوا على منع تكفير المعتزلة بهذا وأمثاله مما تأولوا في إنكاره من المتواترات تأويلا لا يعود على الدين بالإبطال، بقول النبي عليه الصلاة والسلام: "والذي نفس محمد بيده، لتفترقن أمتي على ثلاث وسبعين فرقة"- رواه ابن ماجه وصححه الألباني.
وقال فيه الخطابي في معالم السنن: "فيه دلالة على أن هذه الفرق كلها غير خارجة عن الدين؛ إذ جعلهم النبي عليه الصلاة والسلام كلهم من أمته، وفيه: أن المتأول لا يخرج من الملة، وإن أخطأ في تأوله".
وخلص حسونة إلى القول: "وبالجملة فالذي أراه -والله تعالى أعلم- أن الدكتور حسن الترابي رحمه الله لم يكفر بشيء مما صحت نسبته إليه من الأقوال الشاذة، إلا أنه بتلك الأقوال شاذ غير معذور في اجتهاده، ولا يجوز تقليده فيها، ويجوز إنكار ذلك عليه في حياته وبعد مماته، نسأل الله تعالى له المغفرة والرحمة، وأن يتجاوز عنه، إنه سميع مجيب".
ولعل ما قاله الشنقيطي بعد دفاعه عنه في كتابه المشهور "آراء الترابي.. من غير تكفير ولا تشهير"، يبرز مكامن الضعف في تجربة الترابي ومسيرته، حينما انتقد طريقته في عرض أفكاره، وتقديم آرائه، بأنه "لو خاطب حملة الثقافة الفقهية الحاضرة بلغتهم الأثرية السائدة، ووثق آراءه من التراث الفقهي والفكري المتراكم، لنأى بنفسه عن سهام الاتهام، ولوجد من يتفهم مقولاته، وإن لم يتبنها، ومن قبل بها رأيا اجتهاديا مشروعا، وإن لم يوافقه عليها".