لست ممن يحتسبون القوة السياسية بعدد الأنصار، فـ"العدد في الليمون" كما يقولون، ولست ممن ينظرون للحركات والقوى المدنية (بيسارييها أو ليبرالييها أو حتى مستقليها) نظرة استعلائية باعتبارها مجموعة أصفار إذا جمعت لن تساوي إلا صفرا، ولست ممن يراهم أيضا مجرد فقاعات أو كائنات فضائية لا صلة لها بأرض الواقع. وإن صح هذا على البعض فلا يمكن تعميمه على الجميع، وفي المحصلة لست ممن يرون إمكانية بناء الوطن دون وجود هذه القوى ودون وجود قوى التيار الإسلامي أيضا.
لهذه الأسباب مجتمعة، فإنني اليوم أتوجه بكلماتي لتلك القوى المدنية التي شاركت بجهد كبير في ثورة يناير تحضيرا وتنفيذا قبل أن يشارك بعضها في وأد الثورة مع العسكر أن تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم لنسقط حكم العسكر وننقذ الوطن ونقيم الدولة المدنية الحديثة، وفي هذا السياق – وبدون لف أو دوران - لتسمح لي تلك القوى المدنية، خاصة تلك التي لاتزال تؤمن بثورة 25 يناير ولا تخالطها بأوهام أخرى، بطرح بعض التساؤلات عليها لاستجلاء الموقف ومحاولة الفهم الصحيح لما يعيق استعادة
الاصطفاف الثوري، الذي جربناه من قبل في حركة كفاية والجمعية الوطنية للتغيير وفي ميدان التحرير وغيره من الميادين، والذي أثمر ثورة عظيمة قفزت بمصر إلى مصاف الأمم المتحضرة ولو لفترة وجيزة قبل انقلاب الثورة المضادة.
لماذا ترفض هذه القوى المدنية دعوات الاصطفاف التي يوجهها لها فريق آخر من أبناء الثورة؟ لماذا تصم آذانها عن تلك الدعوات؟ هل هو الخوف من دفع أثمان باهظة ليست في مكنتها؟ هل هو استمرار أزمة الثقة والخوف؟ أم هو مجرد "النفسنة" من شركاء الثورة الذين حازوا رضا الشعب في الاستحقاقات التالية للثورة دونهم؟ أم هو العداء التاريخي الذي لايستطيعون الخلاص منه للتيار الإسلامي وما يحمله من أفكار؟ أم هو الرغبة في الاستئثار بتمثيل الثورة والحديث باسمها حتى وإن لم يستطع وقف العدوان عليها؟ أم فوق كل هذا وذاك هو القناعة بقدرتها- أي القوى المدنية- على كسر الانقلاب وما نتج عنه من حكم عسكري استبدادي بمفردها دون الحاجة لغيرها من القوى الإسلامية والوطنية؟
يمكنني التنبؤ ببعض الإجابات، لكنني لا أراها كافية أو مقنعة أبدا لتبرير هذا العزوف عن دعوات الاصطفاف، وهو ما يسبب حرجا للأصوات الداعية للاصطفاف ويعتبرها كمن يهرول خلف سراب يحسبه ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا.
لا يمكنني بطبيعة الحال أن أتجاهل أن ثمة نجاحات محدودة لجهود الاصطفاف، تمثل بعضها في خروج بعض الرموز الفنية والإعلامية التي شاركت في 30 يونيو، ودعم بعضها الانقلاب فعلا من
مصر، والتحاقها بالقوى الرافضة للانقلاب في الخارج، ومساعي بعضها للاقتراب والعمل المشترك مع القوى الرافضة للانقلاب في الخارج، وكذا في إعلان فبراير الذي ضم عددا من الرموز الشبابية، والذي سبقته جهود كبيرة في بيان القاهرة، وبروكسل، كما أن بعض الرموز الليبرالية سعى للعمل والظهور الإعلامي عبر شاشات فضائية معروفة برفضها للانقلاب، لكن هذه النتائج المبدئية - وإن كانت محل تقدير - لا تتناسب البتة مع حجم الكارثة التي يعيشها الوطن تحت هذا الحكم العسكري الانقلابي.
يكفي عامان ونصف العام لهذه القوى المدنية لتدرك حجم هذه الكارثة، ولتدرك إلى أين تتجه سفينة الوطن وثورته، ولتدرك أنها أصبحت هدفا للانتقام من هذا النظام شأنها شأن التيار الإسلامي، ولتدرك أن رموزها المحبوسة جنبا إلى جنب مع رموز التيار الإسلامي لن يخرجوا من محابسهم إلا بعمل جبهوي قوي، وأن وقف منحنى الانحدار للوطن ومقدراته لن يتوقف إلا بعمل جبهوي قوي، وأنها في المحصلة غير قادرة بمفردها على مواجهة حكم العسكر، وإذا كانت قادرة فلتعلن ذلك، فربما يفسح الآخرون لها الطريق لتسقط حكم العسكر ولتنفرد بحكم مصر بعد ذلك، ويكفي هؤلاء الآخرين العيش في دولة ديمقراطية مدنية حيثة توفر لهم أبسط الحقوق والحريات.
لا تقتصر القوى الليبرالية واليسارية على بعض الحركات المعروفة مثل 6 إبريل أو الاشتراكيين الثوريين أو أحزاب هنا أو هناك، لكنها تمتد لتشمل حركات عمالية وطلابية ومهنية وثقافية متنوعة، وكم أتمنى أن تكون ذكرى انطلاقة 6 إبريل هذا الأسبوع فرصة لإعادة الاعتبار لمبادرات الاصطفاف الثوري، وكسر الحواجز النفسية التي حالت من قبل دون لقاءات مباشرة مع بقية شركاء الثورة لتدارس كل القضايا بروح صادقة وقلب وعقل مفتوحين، حيث يمكن لكل فريق أن يطرح هواجسه ومطالبه، كما يمكن الاتفاق على صيغة للعمل المشترك لإسقاط الحكم العسكري واستعادة المسار الديمقراطي، وبناء الدولة المدنية الديمقراطية الحديثة، ولتكون قوى الثورة الحقيقية هي صاحبة المبادرة في تقرير مستقبل ثورتها ووطنها بدلا من أن تفرض عليها بدائل وحلول من الداخل أو الخارج لا تلبي طموحاتها.
الدعوة للاصطفاف الثوري هي عمل نبيل وليس تسولا أو استجداء، ومهما تعرض هذا المصطلح للتشويه فلا بديل له لإسقاط حكم العسكر، وإذا كانت الجهود متعثرة للم شمل كل القوى الثورية فليكن الاصطفاف بمن حضر.