كتب فهد الخيطان: على مدار أربعين عاما وأكثر، نجحت شركة الخدمات القانونية موساك فونسيكا التي تتخذ من
بنما مقرا لها، في توفير ملاذات آمنة و"قانونية" لملايين الأشخاص حول العالم، ومساعدتهم على التهرب من دفع الضرائب في بلادهم، وغسل الأموال، والإفلات من العقاب.
لكن عالم اليوم لم يعد كما كان قبل أربعة عقود. وكان رئيس الشركة رامون فونسيكا المذهول من هول الصدمة، محقا في قوله "إن الخصوصية حق أساسي من حقوق الإنسان تتآكل أكثر فأكثر في عالمنا اليوم".
في عالم اليوم، صار بالإمكان تحطيم حصون الخصوصية وولوج أرشيف "فونسيكا" السري وتسريب ما يزيد على 11 مليون وثيقة سرية تخص عملاء الشركة، من بينهم زعماء دول وساسة كبار ومشاهير في عالم الرياضة والأعمال.
تفوق
الفضيحة في أهميتها برقيات "ويكيليكس"؛ فالأخيرة كانت سياسية بامتياز، وكشفها مسّ بعلاقات الولايات المتحدة مع دول عديدة في العالم، كونها وثائق تخص وزارة الخارجية الأميركية، وقد انحصر أثرها في علاقة واشنطن مع زعماء وعواصم عالمية.
لكن "أوراق بنما"، كما شاع اسمها في وسائل الإعلام، كشفت عالم العلاقات السرية بين السياسيين ورجال الأعمال وعصابات تجارة المخدرات والأسلحة وحتى الجنس.
رئيس الوزراء الأيسلندي كان أول ضحايا الفضيحة؛ فقد اضطر لتقديم استقالته يوم أمس بعد أن كشفت الوثائق صلاته ببنك أيسلندي تدخلت الحكومة لإنقاذه خلال الأزمة المالية التي ضربت أيسلندا قبل سنوات.
في باريس، سارع الرئيس الفرنسي إلى تبني الدعوة بفتح
تحقيق قضائي. وهو الإجراء نفسه الذي ستسلكه دول غربية عديدة. وقد تعهدت حكومة بنما بالتعاون مع جهات التحقيق في الوثائق المسربة.
لا تكمن الإشكالية بوجود شركات تقدم الخدمات القانونية مثل "موساك فونسيكا"، ولا في شركات الـ"أوف شور" العالمية؛ فهذا تقليد عالمي في مجال الأعمال، تلجأ إليه الدول مثلما يلجأ إليه الأفراد، لإدارة نشاطات استثمارية ذات طبيعة عالمية أو وطنية.
الكارثة التي كشفت عنها "أوراق بنما" هي في استخدام هذه الشركات كملاذات آمنة للتهرب الضريبي، وغسل الأموال، والتحايل على قوانين الدول للدخول في مناقصات بأسماء مستترة، وإخفاء الأنشطة السرية وعوائد الأعمال القذرة، كتجارة المخدرات والأسلحة والاتجار بالنساء، وأكثر من ذلك استغلال النفوذ من طرف السياسيين للتربح وإخفاء الثروات المالية والعقارية.
وقد تبين من الأوراق أن الفساد مرض مستشر في كل المجتمعات والدول، ديمقراطية كانت أم استبدادية؛ وأن رجال الأعمال في العالم يملكون من التأثير والسحر ما يمكنهم من إغراء الرؤساء المنتخبين قبل الدكتاتوريين.
هل سيغلق عالم الـ"أوف شور" والمكاتب القانونية المتخصصة في هذه الأعمال أبوابها بعد فضيحة "أوراق بنما"؟
ليس واردا بالطبع؛ فهناك حوالي 16 مكتبا تقدم خدمات مماثلة لمكتب بنما، وستسارع إلى تحصين حواسيبها وأرشيفها كي لا تطاله يد "مجهولة" كالتي امتدت لأوراق بنما. لكن سيأتي يوم ما وتتساقط أوراق جديدة كالتي تسربت أخيرا؛ ففي عالم المستقبل ما ينبئ بثورة تقنية لا تعرف حدودا، ستُنهي وإلى الأبد عالم الخصوصية وتفضح الأسرار.
من كان يتخيل أن أرشيف شركة في آخر الدنيا سيفجر فضيحة عالمية؟
(عن صحيفة الغد الأردنية)