منذ بداية أزمة
تيران وصنافير ونحن نسمع كل يوم تعليق جديد من أشخاص يلقون الحجج والأسانيد يمينا ويسارا، حتى جاءت السيدة هدى عبد الناصر لتقدم لنا الدليل من أوراق سرية وجدتها بالصدفة. وحاولت أن أنقب داخل المقال المنشور بالأهرام القاهري لأجد دليلا واحدا على الادعاء، لكني خرجت بالعكس تماما.
فقد عرض المقال عدة مستندات مختارة لا تقر بأي شيء، ولكنها اعتمدت على الانتقاء الذي يسبب الشك أكثر من اليقين، والذي يهمل التاريخ ويقرأ من وريقات وليس من كل الأرشيف. تناست الكاتبة، عن إهمال أو عمد، أن الأرض لم تخلق عام 1948، ولكنها خلقت قبل ذلك بملايين السنين، وأن الحدود
المصرية لم تتشكل في 1948.
ولنتعمق في الأمر بعيدا عن المؤامرات والخزعبلات، وبعيدا عن ويكيبيديا التي تغيرت كل معلوماتها في الأيام القلائل الماضية مع التنازل عن الأرض، يجب أن نعود لتاريخ إنشاء الدولة
السعودية.
فقد تأسست الدولة السعودية الأولى عام 1744، وشملت أجزاء كبيرة من شبه الجزيرة العربية، حتى سقطت في يد القوات العثمانية تحت قيادة إبراهيم محمد علي باشا في عام 1818. ومع مغادرة إبراهيم باشا عائدا إلى مصر، عادت القبائل للتجمع فكانت الدولة السعودية الثانية، والتي لم تكن تغطي سوى الوسط والشرق، مما هو معروف بالسعودية اليوم، وكان ذلك بين 1818 و1891 حين ازداد الاقتتال بين القبائل وسقطت الدولة الثانية. ومن المعروف أنه خلال تلك الفترة كان هناك من الأمراء من تولى الحكم بتكليف من مصر.
وكانت الدولة السعودية الثالثة التي دامت ما بين 1891 و1932؛ قد شملت قطاعا كبيرا من السعودية بحدودها الحالية وعُرفت بإمارات الرياض، والتي تحولت فيما بعد لسلطنة نجد في 1921 حتى إعلان المملكة العربية السعودية في 1932.
خلال هذه الفترة لم تكن لهذه الإمارات أو السلطنات وحتى المملكة أي سيطرة أو نشاط من أي نوع على أرض الجزيرتين تيران وصنافير. وعلى العكس تماما، فإن مصر لم تتغير ملامحها طوال هذه الفترة وخاصة فيما يتعلق بالحدود الشرقية، كون خليجي العقبة والسويس بحيرات مصرية، حتى ترسيم الحدود بمعرفة الدولة العثمانية، والتي تضمنت تيران وصنافير ضمن الحدود المصرية، وكان ذلك في عام 1906، وكانت الدولة السعودية الثالثة يومئذ في قمة مجدها، ولم تكن تضم أرض الجزيرتين تيران وصنافير ولم يكن لها أي نشاط على الجزر.
وتحتوي وثائق الحرب العالمية الثانية على أكثر من دليل يؤكد أن الوحدات المصرية كانت تستخدم هاتين الجزيرتين كجزء من النظام الدفاعي المصري أثناء هذه الحرب. وشملت اتفاقية الهدنة في 1949 بعد سقوط فلسطين في أيدي العصابة الصهيونية الحدود ذاتها التي تضمنت تيران وصنافير، وفي 1954 أودعت مصر لدى الأمم المتحدة الوثائق التي تثبت تبعية الجزيرتين لها.
ونشب في 1955 خلاف بين مصر والكيان الصهيوني حول حق المرور في المضيق، حيث مصر تقره مياها إقليمية، والكيان الصهيوني يصر على معاملته كمياه دولية وهو ما حصل عليه الآن، رغم أن الجزيرتين تمثلان جزءا من المنطقة "ج" المشار لها في اتفاقية السلام "كامب دافيد" المشؤومة، بين مصر واسرائيل.
ونعود للأستاذة هدى عبد الناصر التي استندت في حكمها على مستند - إن صح - فهو ضعيف للغاية، ذكرت منه: "الحكومة المصرية - بالاتفاق التام مع الحكومة العربية السعودية -، أمرت باحتلال هاتين الجزيرتين، وقد تم ذلك فعلا. وقد اتخذت مصر هذا الإجراء لمجرد تعزيز حقها، وكذلك أي حق محتمل للمملكة السعودية فيما يتعلق بالجزيرتين، التي يتحدد مركزهما الجغرافي على بعد 3 أميال بحرية على الأقل من الشاطئ المصري في سيناء، 4 أميال تقريبا من الجانب المواجه للسعودية. وقد تم ذلك لقطع خط الرجعة على أي محاولة للاعتداء على حقوق مصر". ذلك رغم أنها ذكرت خلال الفقرة الخاصة بالمركز القانوني للخليج أن مضيق تيران لا يعد خليجا دوليا، وأن المكلف من سكرتارية الأمم المتحدة بإعداد قائمة للمضائق التي تعتبر ممرات دولية، أعد قائمة اشتملت على 33 مضيقا ليس من بينها مضيق تيران.
والسؤال هنا: كيف قفزت الأستاذة هدى للنتيجة أن الأرض سعودية من هذه العبارات، رغم أن السعودية ذاتها لم تتحدث عن الجزيرتين إلا في 1957، وبدون أية وثائق تثبت ذلك الحق؟
إن الأمر جلل أن يتصارع من هم كانوا أو ما زالوا بالقرب من مراكز اتخاذ القرار؛ بالإفتاء، مستخدمين أقوالا منقوصة وتفسيرات مغلوطة، ليمرروا تجارة فاسدة يقوم عليها تاجر مختلس للسلطة وللبضاعة التي يبيعها، ليُسعدوا بها من تَقَبلَ الهدية، وليس لهذا التاجر المختلس إلا هدف واحد ألا هو خدمة مخدومه والوقيعة بلا رجعة بين الشعبين السعودي والمصري.