الطائفية التي تحرق ديارنا..

يولد الطفل على الفطرة، لا يعرف سنة ولا شيعة ولا يهودية ولا بوذية، ولو رأى طفل يهودي مسلما لتبسم في وجهه دون عناء، حدث هذا في صورة معبرة التقطتها الكاميرا لامرأة بيضاء تشيح بوجهها عن امرأة سوداء تجلس مقابلها في الحافلة بينما طفلها الذي تحمله بين ذراعيها يبتسم للمرأة السوداء ببراءة ويلاعبها، هكذا هم الأطفال أنقياء لا يعترفون إلا برابطة الحب بين جميع الأنام، فإذا كبرنا نظرنا إلى سنوات العمر الأولى وكأنّها سنوات نقص اكتمال وسخرنا من سذاجة الصغار وقلنا لهم غدا تكبرون وتفهمون، بينما نحن من نحتاج أن نتعلم منهم، فالطفولة مرحلة متقدمة من السلام والنقاء قبل أن تثقلنا الذاكرة بالكراهية والعصبيات، ولو وعينا هذه الحقيقة لحاولنا العودة إلى الطفولة بدل أن نستعجل أطفالنا الخروج من جنتهم والهبوط إلى أرض بعضنا فيها لبعض عدو.

كان الناس أمة واحدة فاختلفوا، يأبى الإنسان أن يظل متنعما في جنة الفطرة يتبادل الأخوة والتعارف مع بني البشر جميعا، فيبادر من تلقاء نفسه للبحث عن قيود وأغلال يشدها إلى عنقه، لقد ذلل الله الأرض للناس ليمشوا في مناكبها ويسيحوا شرقا وغربا في رحابها سيروا فيها ليالي وأياما آمنين، لكنهم قالوا ربنا باعد بين أسفارنا، وظلموا أنفسهم، فعزلوا أنفسهم وراء جدر، فكانت الدول والحدود السياسية تمظهرا للحدود النفسية وجدر العصبيات التي نشأت في القلوب وضيقت واسع الرابطة الإنسانية واخترعت الفروق اختراعا لتبرير الاقتتال، وتحت سيطرة أوهام "نحن وهم" استبيحت المحرمات وسفكت الدماء وتناحرت الأحزاب وتمزق الناس شيعا ونسوا كلمة السواء التي تجمعهم كلهم في الأصل إلى رب واحد ونشأة واحدة وترجعهم إلى مصير واحد..

من أكبر الأوهام التي يخدع الناس بها أنفسهم أنهم أحرار يختارون وجهاتهم في الحياة بملء إرادتهم بينما أغلال الآباء محكمة الوثاق إلى الأعناق، إن أحدنا لم يختر أن يكون عربيا أو كرديا، سنيا أو شيعيا، أبيض أو أسود. إن ظروف مكان الميلاد والنشأة والبيئة التي تلقفتنا منذ الصغر هي التي تفرض علينا انتماءاتنا القومية والمذهبية والدينية وتعطينا أسماء وتصنيفات وإجابات جاهزة للحياة مثلما تعطينا أسماءنا، ومع ذلك نتفانى في التعصب لاختيارات لم تكن في ساعة تأمل عميق وتفكر حر ونتعامل مع منظومة القيم والمعايير التي أورثها لنا آباؤنا بأنها الحق المبين الذي ليس بعده إلا الضلال، بل نبدي استعدادنا للموت في سبيل موروثات ومسلمات وروايات تاريخية لم نمحصها تحت مجهر الفحص العلمي، ولو تبدلت المواقع ونشأ السني في بيت شيعي أو الشيعي في بيت سني أو ولد أحدنا لأبوين يهوديين أو هندوسيين لتبدلت القناعات والمعايير مع بقاء الثابت الوحيد وهو التعصب والإفراط في تقديس الذات وتدنيس الآخر دون معايير علمية ومبادئ أخلاقية.

ومن عجائب هذا الإنسان الذي هو أكثر شيء جدلا أن أعظم عقوله قد تتورط في أسخف الخرافات إذا أضفى المجتمع عليها قداسة وحصنها من النقد والمراجعة، بما يعني أن للثقافة سلطانا على العقل وأن الموروثات المجتمعية تقيد ذكاء الفرد وتعلبه في صندوق محكم الإغلاق، فلا عجب أن يحوز أستاذ جامعي على أعلى الشهادات العلمية وأن يخترع ويكتشف في الطب والفيزياء والفلك ثم تجده يسجد لبقرة أو يعتقد أن الإمام مختبئ في سرداب أو يتشاءم إذا رأى غرابا، هذه ليست سوى أمثلة عشوائية لآلاف المعتقدات التي تشيع في كل الثقافات ويؤمن بها الأذكياء والأغبياء على السواء، تمارس سحرها عليهم دون أن يجرأ أحد على إعادة التفكير فيها وإخضاعها للتدقيق والبرهان..

يعجبني أحد أصدقائي من العراقيين الشيعة في كتاباته المستنيرة في الفكر والتاريخ وفي مشاعره الروحانية المرهفة، لكنه يفاجئني حين يتعلق الأمر بالمعضلات السياسية والطائفية داخل بلده فيدعو إلى تطهير الفلوجة ويمتدح بطولات الحشد الشعبي ويستشهد من القرآن بـ"ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا" لنعي شهداء الحشد الشعبي! أتساءل: لماذا لم يستطع كل هذا الفكر المستنير أن يقتحم العقبة ويكسر الصندوق الطائفي ويرى المبادئ مجردة ببساطتها وفطريتها، بعيدا عن أي موقع طائفي وسياسي؟ لماذا لا نزال عاجزين عن رؤية القتل قتلا والاضطهاد اضطهادا والتمييز تمييزا، بغض النظر عمن يمارسه وعمن يمارس ضده؟

هذا هو السهل الممتنع، أكثرنا يبشرون بمبادئ العدل والحرية والسلام لكن واقعنا كله ظلم وعبودية وصراعات.

كل الكلام الجميل الذي نسطره عن القيم والمبادئ لم يحل مشكلاتنا ولم يحول واقعنا إلى أمن وسلام. أتدرون لماذا؟

لأن أحدنا بينما يتحدث عن العدل والحرية والتعايش والسلام فإنه يقصد ذلك العدل والحرية الذي يخدم نفسه وحزبه ومقربيه: "وإن يكن لهم الحق يأتوا إليه مذعنين"، حتى جورج بوش ليس لديه مشكلة مع العدل بهذا المعنى، أما الاختبار الصعب الذي يسقط فيه أغلبنا فهو مدى قدرتنا على التحرر من ضغوط الأقربين وتغليب القيم الأخلاقية حين تتعارض مع أنانياتنا ومصالحنا وعصبياتنا.

لذلك كان المعيار القرآني لاختبار صدق ادعاء العدل هو حين يكون لصالح العدو وعلى أنفسنا: " ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى"، " يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوْ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ."

ذكرت مثال صديقي العراقي لأظهر مدى الأثقال التي يمارسها المجتمع حتى ضد من يتمتعون بالعقل المستنير وأي ضرر يلحقه ضغط الثقافة بقدرتنا على إبصار المبادئ الأخلاقية مجردة، لكن هل نحن أحسن حالا أم أننا نقع تحت وطأة المرض ذاته؟

نحن نتعجب من وقاحة من لا يزال يناصر المجرم بشار الأسد لكن كثيرين من هؤلاء المتعجبين لا يعدمون الحيلة للإشادة بالمجرم صدام حسين والتماس الأعذار له والإشادة ببطولاته!
إن كنت أعطيت لنفسك الحق في أن تقول نعم إن صدام مجرم ولكن..، فإنك تكون قد أعطيت لغيرك الحق أن يقول نعم إن بشار مجرم ولكن...

في المبادئ فإن "ولكن" تنسف ما قبلها وتقتل المبادئ في صميمها وتميع وضوحها وتمايزها..
لا يوجد "ولكن" إلا بالقدر الذي تتفهم فيه "ولكن" الآخر المختلف معك سياسيا أو فكريا أو طائفيا..
المبادئ لا تتجزأ وفي الوقت الذي تهتز فيه نفوسنا ونرتبك حين نكتشف أن القيم الأخلاقية تصب في مصلحة الآخر فهذا يعني أننا لسنا صادقين بما فيه الكفاية في الإيمان بهذه المبادئ..

هذه هي النقطة الحرجة، لن نحل مشكلاتنا إلا بمواجهة صريحة سافرة كاشفة مع الذات، أي بطولة في أن يبصر كل واحد فينا الظلم الذي يمارسه الآخر الديني أو الطائفي أو الحزبي، بينما لم يمتلك الجرأة مرة واحدة ليقول لنفسه أو حزبه أو طائفته إنكم تسيرون عكس مبادئ العدالة وإن قيم التعايش الإنساني والعدل التي أؤمن بها تتطلب مني الآن أن أقف في الصف المعاكس لكم؟

يؤلمني ما يحدث في الفلوجة وفي المدن السورية لكني أشعر أن أي توجيه للحديث في اتجاه طائفي لن ينجح في إيقاف سفك الدماء لأن من يضع على عينيه نظارة طائفية فلن يرى شيئا إلا وفق ما تسمح له طائفيته برؤيته وسيتورط بدوره في الظلم وانتهاك حقوق الغير دون أن يهتز ضميره، إن التحيز الأعمى يعمي البصائر ويميت الضمائر ويطوع للنفوس الإفساد في الأرض دون أن تشعر بجرم ما تفعل: "وإذا قيل لهم لا تفسدوا في الأرض قالوا إنما نحن مصلحون ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون"! ما أعظم الأسرار النفسية في هاتين الآيتين لو تدبرناهما..

لا أرى مخرجا لظلمات الطائفية والتمزق الحزبي، إلا بأن يتداعى العقلاء من مختلف الطوائف والأحزاب ويؤسسوا لتيار مدني يؤمن بقيم المواطنة والحقوق المتساوية للجميع، على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، وأن يقوى هذا التيار المدني حتى يتمكن من تفتيت الكتل الطائفية الكبيرة، وتسود بين الناس علاقات المواطنة والتعايش واحترام حق الاختلاف، وتتحول الدولة ومؤسساتها إلى إطار حقوقي خدماتي محيد وظيفته تحقيق سيادة القانون وضمانات التعايش والأمن والعدالة للجميع، وتتنافس الأحزاب في تقديم الخدمات للناس لا في الاستقطاب الطائفي البغيض القائم على تأجيج الكراهية والخوف..

 "قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ".