في أسبوع واحد، «احتفل»
العرب بذكريين اثنتين تُنسب إليهما أمور كثيرة: واحدة تعود إلى 1916، وهي مئوية اتفاقية سايكس- بيكو التي جرى الاتفاق على أنها «جزّأت المشرق العربي»، والثانية تعود إلى 1948، وهي ذكرى
النكبة الفلسطينية وقيام
إسرائيل التي فصلت عرب آسيا عن عرب إفريقيا.
وفيما ساد الندب واللطم، تذكرنا أننا في كل عام نفعل ما فعلناه قبل أيام، أي إننا نندب ونلطم كما لو أننا نعيش تجزئة عالمنا وقيام إسرائيل للمرة الأولى. وبعض ما يعنيه هذا أن الذكرى لا تعود ذكرى، بل تغدو جزءا لا يتجزأ من واقع راهن، إن لم نقل: من واقع يومي ضاغط.
لكن البائس في الأمر أن من يعاني مثل هذا الاختلاط بين الذكرى والواقع، يستطيع أن يحول الواقع إلى ذكرى، تماما كما قام بتحويل الذكرى إلى واقع. وهذا معناه أننا لسنا كائنات تاريخية، أو أن تاريخنا لا يتم تعقّله بوصفه تاريخا يتحوّل ويتغير ويتسع للفعل الإنساني. ولسنا بحاجة كيما ندلل على ذلك إلى الاستشهاد بالكيفية التي نتعامل بها مع واقعات كبرى، تعود إلى قرون عديدة منصرمة كالحروب الصليبية، لا بل مع عموم النظرة إلى ما نسميه التراث ولا نفهمه إلا كمشروع مطروح على مستقبلنا، أو كمعركة يتقرر على ضوء الفوز بها الفوزُ بمعركة المستقبل. وغني عن القول إننا لا نستجيب للتراث عبر بناء المتاحف أو الحفاظ على الآثار وترميمها أو تحسين الاجتهاد في فهم التاريخ، بل نحيل الأمر كله إلى ما يكاد يكون ميتافيزيقا وجودٍ وعدمٍ، متعاليين على الواقع وعلى التاريخ.
وهذا الغياب، أو بالأحرى هذا الفوات، إنما يتركز في مسألة المسؤولية التاريخية. فقد انقضى قرن كامل على سايكس- بيكو كما انقضت 68 عاما كاملة على النكبة وقيام إسرائيل، إلا أن ما فعلناه لا يعدو كونه «صمودا» عند اللحظة التأسيسيّة الأولى، لا بل تكريسا لها ينمّ عن عطالة تأثيرنا وتدخلنا الذاتي.
ونحن نعلم، من تجاربنا وتجارب سوانا، أن المآسي لا تُكتب ولا تصير تاريخا، أو حتى تراجيديا، إلا بعد أن يتوقف العويل والنواح ليحلّ محلّهما الفعل والتدخل الإنسانيان. لكننا نعلم أيضا أن الذين تحكموا بهذه المنطقة إنما كان هدفهم تحديدا منع أيّ تحوّل في النظر إلى التاريخ، بوصفه بين أوصاف أخرى، منصّة للفعل والتدخل الذاتيين. وما من شك في أن قطاعا عريضا جدا من المثقفين العرب حالفوا، ولو بحسن نيّة أحيانا، الأنظمة ورغبتها في تخشيب التاريخ والنظر إليه بوصفه محطات ثابتة وجوهرية، بعضها للنحيب والنواح، وبعضها للافتخار الفارغ بما عرفه ماضي العرب والمسلمين من أمجاد. لكن ما يزيد البؤس بؤسا أن هذا التصنيم سار في موازاة القطيعة مع حياة البشر، ومحاولاتهم وإنتاجهم وموقعهم من السياسة والتأثير.
وقد شاءت المصادفة أن تعطينا ذكرى أخرى، بعد أيام على ذكرى سايكس- بيكو وقيام إسرائيل، هي عيد تحرير الجنوب اللبناني من الإسرائيليين في 25 مايو 2000، التي يُفترض فيها أن تكون ذكرى سعيدة وانتصارية. بيد أننا لا نحتاج إلى كثير من التمعن كي نكتشف أن هذه المناسبة إنما مهدت لتحويل «حزب الله» طرفا يتحكم بالقرار السيادي اللبناني، كما حولت المقاومة إلى أقنوم مقدس يرقى التشكيك به إلى خيانة. وأهم من هذا أنه بدل أن يتحول تحرير الأرض إلى مقدمة لبناء وحدة وإجماعات وطنية، تحول ذاك التحرير عبئا وعائقا على تلك المهمة التي تزداد بُعدا واستحالة. وهكذا يتساوى لدينا إيجابيُّ الذكرى وسلبيُّها!
(عن صحيفة الاتحاد الإماراتية)