ساهمت الثورة
التونسية في رفع سطوة الدولة على مساحات الفعل المدني التي استمرت لمدة تقرب من ربع قرن، فبالإضافة إلى فتح الباب أمام إمكانات الانتظام السياسي والحزبي؛ شهدت البلاد طفرة غير مسبوقة في أعداد الجمعيات التي أُنشئت والناشطين فيها.
وكغيره من الشعوب العربية، كانت جل اهتمامات الشعب التونسي قبل الثورة، تراوح مكانها ضمن دائرة الهامش البعيد كل البعد عن قضايا الشأن العام؛ من سياسة واقتصاد، وغيرها من القضايا التي كانت حكرا على نخبة النظام الدكتاتوري، وقلة قليلة من الناس الذين تجرؤوا على النظام، وخاضوا فيها نقدا ومعارضة.
ومع استرجاع التونسيين لبلدهم وتأسيسهم لنظام ديمقراطي وليد؛ شهدت دائرة الاهتمام الشعبي تغييرا انعكس على إقبال التونسيين على الانتظام في الأحزاب والجمعيات، وهو ما يندرج ضمن مسار تأسيس وصناعة نخبة الثورة، أو ما يسمى بـ"نخبة الانتقال الديمقراطي".
وعلى عكس المشهد السياسي الحزبي الذي ظل في عمومه متمشيخا أو كهوليا في أحسن حالاته، بحسب مراقبين، عرف
المجتمع المدني في تونس ظهورا لرموز شبابية انطلقت في نحت مسيرتها، وصناعة سيرها الذاتية، وترك بصمتها في ساحة الشأن العام.
ووفق آخر إحصائيات رسمية؛ بلغ عدد الجمعيات في تونس 18 ألفا و413 جمعية إلى غاية شهر أيلول/ سبتمبر 2015، يتمركز خمسها بالعاصمة، وتم تأسيس أغلبها بعد الثورة.
وتتوزع اهتمامات هذه الجمعيات من ناحية أنشطتها على مجالات عديدة، أهمها المجالان الرياضي والخيري الإنساني، بالإضافة إلى المجال التنموي والثقافي والفني.
وبحسب أرقام المرصد الوطني للشباب؛ فقد بلغ إقبال
الشباب التونسي على الانخراط في الجمعيات حوالي أربعة بالمئة، في مقابل ثلاثة بالمئة بالنسبة لإقبال الشباب على الأحزاب السياسية.
ورغم هذا العدد الكبير من التأشيرات القانونية الذي يعد بالآلاف؛ ظل عدد الجمعيات الناجحة من ناحية إشعاعها ونجاعة برامجها على المُستوى الوطني في حدود المئات، وهذا يرجع أساسا إلى أن "النسيج الجمعياتي في تونس ناشئ، ومتنوع، ومتكون أغلبه من جمعيات صغرى، وتشوبه نقائص في الإمكانات المادية والموارد البشرية، بالإضافة إلى افتقاره للشفافية في التصرف الإداري والمالي، وللديمومة والاستمرارية في العمل" وفق ما صرح به السيد كمال الجندوبي، الوزير لدى رئيس الحكومة المكلف بالعلاقات مع الهيئات الدستورية والمجتمع المدني، في تشرين الأول/ أكتوبر 2015.
وقال فارس بن التارزي، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للطلبة ومدير برامج في شبكة القطب المدني، إنه فضل العمل الجمعياتي على الحزبي رغم أهمية كليهما؛ "لأن الفضاء الجمعياتي يمنح هامشا أوسع من الحرية، ومجالا أكبر للإبداع".
وأضاف لـ"
عربي21" أن "الانخراط في الجمعيات، وتقلد المهام القيادية فيها؛ أيسر بكثير من واقع الأحزاب السياسية المحكومة بواقع الانضباط التنظيمي، والتي يكون التدرج في سلمها القيادي أكثر تعقيدا".
وحول الصعوبات التي تعترضه وباقي النشطاء الشباب؛ تحدث بن التارزي، عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للطلبة ومدير برامج في شبكة القطب المدني للتنمية وحقوق الإنسان، وهي شبكة تضم مئات الجمعيات، عن صعوبة التوفيق بين الالتزام الدراسي وبين النشاط، وأشار إلى أن هذا يبرز في ضعف إقبال الطلاب على النشاط المدني حيث لا يتجاوز 1,5 في المئة.
وأضاف: "هناك أيضا عوائق هيكلية في الجمعيات غير الشبابية والتي تحتوي عددا كبيرا من الشباب.. هذه الجمعيات حضور الشباب في هياكلها القيادية ضعيف، رغم أن أغلب أنشطتها يحضرها شباب ويقوم بإنجاحها الشباب. بالإضافة للعوائق الاجتماعية وهي الأبرز فأغلب الشباب يستهلكهم البحث عن عمل أو العمل في حد ذاته لمن تحصل عليه".
وحول مسألة التمويل التي طالما سببت جدلا في الأوساط التونسية، قال فارس بن التارزي إن التمويل الأجنبي للجمعيات ينظمه قانون الجمعيات، ويكون من خلال الممولين الدوليين والمنظمات الدولية الموجودة في تونس، أو حتى التي ليس لديها مكاتب في تونس وتدير المنح من مكاتبها المركزية أو الإقليمية.
ويرى مراقبون أن عددا هاما من المانحين الدوليين الذين عادة ما تقف وراءهم لوبيات ومصالح دولية وإيديولوجية، يحاولون عبر ضخ الأموال في ديمقراطيات ناشئة، مثل تونس، تشكيل الوعي العام بما يخدم أهدافهم، وهو ما يجعل عديد الجمعيات تتعامل بحذر مع هذه الإغراءات المالية ذات العناوين النبيلة.
من جهتها، قالت براءة الزيدي، رئيسة فرع تونس لمنظمة "ماستر بيس" (Master peace) العالمية، والناشطة بعدد من الجمعيات، إن التحديات التي يواجهها نشطاء المجتمع المدني تتمثل في أنه مجال مليء بالإغراءات، معتبرا أن أكبر الهواجس دائمة الحضور هو الخوف من أن يتم ترك العمل الميداني لفائدة أنشطة النزل والصالونات؛ ما يُفقد بعده التطوعي والمضموني، وفق تقديرها.
وأضافت لـ"
عربي21" أن الحرص على النّجاح في تحقيق أثر حقيقي وملموس في المجتمع عبر الأنشطة المُختلفة للجمعيات؛ يُعدّ هو الآخر من أبرز التّحدّيات التي تعترض النّشطاء.
وحول إمكانيّة انحسار طفرة المجتمع المدني في دول الربيع بعد حالة الانتكاس التي شهدتها أغلب الأقطار العربية، قالت الزيدي إن "العهد الجديد الذي أطلقته الثورة لن يتراجع للوراء"، مشدّدة على أن اليأس أخطر على الثورات والمجتمعات من قوى الظلام والدكتاتورية.
وتابعت: "مساحات الحرية الموجودة حاليا، رغم الإكراهات الأمنية أو العسكرية في اليمن وليبيا، لم تمنع الشباب من النشاط المدني والسياسي.. والشيء ذاته بالنسبة للشباب السوري، فرغم تشتته بين الدول، جزء كبير منهم يمارس العمل تطوعي والمدني في جبهات إغاثية و إعلامية أو سياسية".
وأشارت الزيدي إلى أن "المجتمع المدني في المغرب وتونس أيضا يعيش حالة من النشاط النوعي تجعل من الصعب العودة بعدها لمربع الركود".