رصد الباحث السوري
أحمد أبازيد في ورقته البحثية المعنونة بـ"تحولات خطاب تنظيم
القاعدة في
سوريا"، والصادرة مؤخرا عن مركز عمران للدراسات الاستراتيجية، عددا من التحولات التي طرأت على خطاب القاعدة منذ مؤتمر الرياض (كانون أول/ ديسمبر 2015).
واعتبر أبازيد "تجربة تنظيم القاعدة في سوريا، من خلال فرعه المتمثل بجبهة النصرة، التجربة الأهم والأكثر فرادة ضمن تجارب القاعدة في البلدان الأخرى، لتوفرها على عدد وعتاد ومساحة نفوذ وعلاقات بالمجتمع المحلي أكبر مما حظيت به فروع القاعدة الأخرى، عدا عن التحولات الحركية والخطابية التي مرت بها".
ولفت الباحث في دراسته إلى أن "
جبهة النصرة تأسست في البداية على يد جهاديين أتوا من العراق (من ضمنهم الجولاني نفسه) بدعم من (دولة العراق الإسلامية)، وأنشأوا قاعدة محلية بنسبة متزايدة من المهاجرين متعددي الميول والمرجعيات ومستويات التشدد ما بين تنظيم القاعدة ودولة العراق أو الجهادية المحلية الأقل أدلجة".
ووفقا لأبازيد فإن "الشقاق الكبير الذي حصل في 9 نيسان/ أبريل 2013 بين جبهة النصرة ودولة العراق الإسلامية، وتوجه جبهة النصرة إلى شرعية تمثيل تنظيم القاعدة الأم، وثّق من التقارب وتزايد التماهي ما بين خطاب النصرة والتنظيم الأم، والذي تفرضه الحاجة المشتركة قبل التبعية التنظيمة، وهو ما ظهر سريعا من خلال كلمات قادة تنظيم القاعدة وجبهة النصرة على السواء".
من أحادية الأيديولوجي إلى ازدواجية السياسي
وركز الباحث أبازيد في بحثه على رصد تحولات خطاب القاعدة في سوريا من "أحادية الأيديولوجي إلى ازدواجية السياسي" على حد وصفه، لافتا إلى أن "خطاب جبهة النصرة منذ نشأته في سوريا مرّ بمراحل من التطور والتعدد والتحولات، ولم تكن بيانات جبهة النصرة الأولى تذكر تنظيم القاعدة، وإنما تكتفي بالتوقيع باسم (من إخوانكم مجاهدي الشام في ساحات الجهاد)".
وحدد أبازيد تاريخ إعلان الجولاني بيعته لأيمن الظواهري، باعتباره تاريخ اضطرار الجبهة للكشف عن هويتها "القاعدية"، فمنذ ذلك الحين "ركزت جبهة النصرة على طباعة رايات باسم (تنظيم القاعدة في بلاد الشام)، كما أصبح التأكيد على الانتماء لتنظيم القاعدة هو الرأسمال الرمزي المعتبر للنصرة في مواجهة خصومها، وإظهار التفوق عليهم في الشرعية الجهادية والدينية".
وأوضح أبازيد أنه لا يقصد "بالخطاب هنا البيانات المكتوبة، بقدر ما هو مجمل المنتج الرمزي الذي تعبّر به الحركة عن نفسها، سواء بالكتابات الرسمية أو كتابات القادة والمنظّرين أو الأنصار، وكذلك المنتج الصوتي والمرئي الذي يقدّم أيديولوجية التنظيم وأهدافه ورسائله لأنصاره وخصومه وللفضاء العام".
ورأى الباحث في سياق تتبعه لاختلاف المواقف داخل جبهة النصرة نفسها، أن "حرب السيطرة على المنطقة الشرقية، التي خاضها تنظيم الدولة (شباط/ فبراير - تموز/ يوليو 2014) في مواجهة الفصائل الثورية وفرع جبهة النصرة في دير الزور بقيادة أبي مارية القحطاني ذي الموقف الأكثر تشددا ضد تنظيم الدولة قد فجرت خلاف المواقف داخل جبهة النصرة نفسها".
وتابع لقد "ظهرت انتقادات واسعة في صفوف منظرين وقيادين من جبهة النصرة ضد موقف القحطاني المتشدد من التنظيم وقتاله الطويل ضده حتى سقوط دير الزور بيد التنظيم، وقدم بعض أمراء جبهة النصرة الحماية للتنظيم في مناطقهم خلال حرب الفصائل الثورية الموسعة ضده (بداية 2014)".
وطبقا للبحث فإن "خلاف التيارات داخل جبهة النصرة ظهر في مواقف مفصلية عديدة مثل ميثاق الشرف الثوري رغم الموقف الرسمي، وقد فاقم تحول جبهة النصرة بعد سقوط دير الزور لخطة إقامة الإمارة، وإقصاء تيار القحطاني من ظهور هذه الخلافات إلى العلن، وهو الإقصاء الذي طال عزل بعض مؤسسي جبهة النصرة ممن كان لهم موقف أقل حدة تجاه الفصائل الثوري (مثلا صالح الحموي).
ولفت أبازيد إلى أن "هذا الافتراق في المواقف تقلص في المرحلة الأخيرة، وبدام من الملحوظ أن مواقف جبهة النصرة ومنظريها شبه موحدة بشكل كبير، إضافة إلى عودة القحطاني إلى اللجنة الشرعية، ومجلس شورى جبهة النصرة (آذار/ مارس 2016)".
ولاحظ الباحث أنه "في مقابل توحد الموقف المعلن للجماعة إعلاميا في مرحلة الدراسة (كانون أول/ ديسمبر 2015 – أيار/ مايو 2016)، فإن تكرار حوادث اصطدام جبهة النصرة مع الفصائل الثورية ومحاولات قمع المظاهرات الشعبية في الشمال السوري، رغم محاولات التقارب مع الخطاب الثوري الذي أظهره زعيم الجبهة في كلماته الأخيرة، قد أكد وجود مسافة براغماتية ما بين الخطاب المعلن للجبهة وما بين الأيديولوجيا التعبوية واستراتيجيته على أرض الواقع".
وخلص أبازيد إلى القول: "لذلك فإن تحليل خطاب تنظيم القاعدة في سوريا، لا ينبغي أن يتعامل مع هذا الخطاب باعتباره يطابق الأيديولوجيا أو الاستراتيجية المتبعة للتنظيم، بقدر ما عليه فهم سياقاتها والبحث في مساحة الأيديولوجي والسياسي في أي من الخطابات المعلنة، وطبيعة الجمهور المقصود به (موضوع الخطاب) والرسائل الضمنية والصريحة التي يريد إيصالها".
هيمنة الخطاب الثوري
ومن التحولات التي رصدها الباحث في خطاب جبهة النصرة في سوريا "هيمنة الخطاب الثوري"، لافتا إلى أن "عام 2013 كان مرحلة هيمنة خطاب السلفية الجهادية في سوريا، أو ما أسموه "هيمنة الخطاب الأقصى" على الفضاء العام، لكن ذلك الخطاب تراجع حضوره وتأثيره بسبب أحداث مفصلية.
كان من أبرز تلك الأحداث وأهمها بحسب الدراسة:
- الصدام مع تنظيم الدولة بداية 2014.
- حملة الإمارة (تموز/ يوليو 2014 – شباط/ فبراير 2015) والتي قام فيها تنظيما جبهة النصرة وجند الأقصى بالهجوم على عدد من فصائل الجيش الحر في ريف حماة وإدلب وحلب.
- تصاعد حدة الخطاب التخويني والتكفيري من رموز الجبهة ضد فصائل الثورة، خاصة مقالات رضوان نموس (أبو فراس السوري)، ومقابلات الجولاني المرئية، خاصة في "المؤتمر الصحفي" بعد مؤتمر الرياض، والذي قال فيه إنه "لا وجود للجيش الحر".
ووفقا للدراسة فإن "الخطاب الثوري استكمل تصاعده واستعاد هيمنته على الفضاء العام عبر مراحل عدة، كان أبرزها المعارك العنيفة ضد النظام منذ التدخل الروسي (30 أيلول/ سبتمبر 2015)، والتي تحملت فصائل الجيش الحر العبء الأكبر فيها، خاصة في ريف حماة الشمالي والساحل..".
ولفت الباحث إلى أن أبرز مظهر لهيمنة الخطاب الثوري "هو موجة المظاهرات الشعبية الحاشدة في المناطق المحررة فيما بعد إقرار الهدنة، وفي ذكرى الثورة السورية (آذار/ مارس 2016)، ورسخت صدامات عدة هذه الهيمنة والتمايز بين الخطاب الثوري والجهادي، خاصة قمع مظاهرات مدينة إدلب والتعدي على علم الثورة السورية، والهجوم على الفرقة 13 في معرة النعمان (13 آذار/ مارس 2016)".
وبحسب ملاحظة الباحث فإن تحولا ظاهرا طرأ على خطاب جبهة النصرة لاستدراك ما حصل، بعد ردات الفعل الواسعة على مقابلة الجولاني التي قال فيها إنه "لا وجود للجيش الحر"، والاحتقان الذي ظهر من خلال اصطدامات متتابعة كان أبرزها اصطدام جبهة النصرة خلال أسبوع واحد بالتمثيلات الثورية المدنية والعسكرية، وخاصة بعد الاحتقان الكبير في تناول مؤتمر الرياض.
أدرج الباحث ما اعتبره تحولا ثالثا في خطاب تنظيم القاعدة في سوريا تحت عنوان "التنافس على الثورة"، وقد أشار فيه إلى أن "جبهة النصرة أظهرت منذ مشروع الهدنة براغماتية تجاه استخدام المفردات الثورية، وحاولت عبر التقارب الخطاب مع الحاضنة الثورية للتنافس على شرعية تمثيل الثورة، في مواجهتها للعملية السياسية التي أفرزها مؤتمر الرياض، وتوافق الفصائل على مرجعية سياسية.
في ختام بحثه خلص الباحث أبازيد إلى أن "جبهة النصرة تقف على مفترق طرق صعب، ما بين التحولات السياسية الدولية من جهة والتي أصبحت أقرب لدعم موقف نظام الأسد وقوات سوريا الديمقراطية وإضعاف الثورة السورية بالعموم سياسيا وعسكريا، والاستقطاب المتزايد ما بين جبهة النصرة من جهة، والفصائل والحواضن الثورية من جهة أخرى، والخلافات الداخلية فيما بين المؤيدين للاندماج في المشروع المحلي والداعمين للتماهي مع تنظيم القاعدة الأم من جهة ثالثة".
واستنادا إلى رأي أبازيد فإن جبهة النصرة "أمام هذه التحديات الموضوعية والذاتية لتحولات خطابية مؤقتة لن تكفي في علاج مشكلة تتعلق بجذور المشروع واستراتيجيته العامة".