قضايا وآراء

دروس الطلاق البريطاني الأوروبي

هاني بشر
1300x600
1300x600
-1-

"الحب أعزك الله، أوله هزل وآخره جد" كما يقول الإمام أبو حزم الأندلسي في كتابه "طوق الحمامة في الأُلفة والأُلّاف". ويبدو أن ما يسري على الحب سرى على طلاق بريطانيا من الاتحاد الأوربي. حيث بدأ الأمر بمطالبات يمينية خجولة من أحزاب فرعية وشخصيات عامة للخروج من الاتحاد الأوروبي وانتهى الأمر جديا بتصويت بفارق ضئيل للخروج من الاتحاد. وبين الهزل والجد، سرت في نهر السياسة البريطانية مياه كثيرة، حاول فيها رئيس الوزراء البريطاني المستقيل ديفيد كاميرون أن يصنع لنفسه قاربا يجدف به بين المياه الآسنة اليمينية ليصل بأمان لسدة السلطة في ولاية ثانية، ويحفظ حزبه المتشقق بسبب الموقف من الاتحاد الأوربي. فوعد باستفتاء في حال فوزه، وقد كان له ما أراد ووصل لرئاسة الوزراء، ثم استبق التصويت بمفاوضات مع الاتحاد لتحسين شروط عضوية بريطانيا بما يلبي رغبات المطالبين بالخروج. وظن أنه سيعيد الكرة الناجحة في استفتاء اسكتلندا عام 2014 بتقديم وعود انتخابية تغري الأغلبية بالتصويت للبقاء.

لم يكن يدري أن منافسه عمدة لندن السابق بوريس جونسون قد استعد ليحذو حذوه ويمتطي هو الآخر موجة اليمين ليزايد على الجميع ويستغل حرية المواقف الممنوحة لأعضاء حزب المحافظين ليتصدر واجهة المطالبين بالانفصال عن الاتحاد الأوروبي. وبذلك صعد سياسيون بارزون إلى واجهة الحملة، فانتقلت من مربع أحزاب الأقلية إلى سياسيي الحزب الحاكم، وكان الفوز حليفهم، ما اضطر كاميرون للاستقالة بعد عام واحد فقط من ولايته الثانية.

والدرس الأول هنا هو أن لا تلعب مع القوى اليمينية ولا تزايد عليهم. فمكاسبك في ظلهم خسارة. إنهم كالوحوش الكاسرة لن يرضوا عنك حتى تتبع عنصريتهم.

-2-
أصبحت بريطانيا الآن خارج الاتحاد الأوروبي من دون أن تعرف بروكسل أو لندن كيف سيدبران أمور حياتهما الاقتصادية والسياسية والاجتماعية. لكن في شمال المملكة المتحدة كان الاسكتلنديين على أهبة الاستعداد منذ فترة للإجابة على هذا السؤال، خاصة بعد أن صوتت اسكتلندا بأغلبية كبيرة لصالح البقاء ضمن الاتحاد الأوروبي. إذ أعلنت الوزيرة الأولى في حكومة اسكتلندا المحلية، التي تتمتع ببعض مزايا الإدارة الذاتية، نيكولا سترجن، أنها ستتخذ كافة الإجراءات القانونية للمضي قدما في تنظيم استفتاء ثان على بقاء البلاد ضمن بريطانيا أم لا. وذلك بسبب تغير الظروف السياسية التي طرأت على بريطانيا بعد الاستفتاء الأول الذي جرى قبل عامين. وقالت "ليس عدلا أن يتم انتزاع اسكتلندا من الاتحاد الأوروبي من دون رغبة شعبها".

الأمر ذاته حدث بشكل مختلف مع العاصمة لندن التي صوتت لصالح البقاء في الاتحاد، ودشن ناشطون عريضة الكترونية تطالب عمدة لندن صادق خان بإعلان استقلال لندن عن المملكة المتحدة والانضمام للاتحاد الأوروبي. ورغم هزلية الدعوة، إلا أنها لا تختلف في هزليتها عن تلك التي كانت تطالب بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوربي قبل أن تصبح حقيقة واقعة. وإذا كان طلاق الغضبان لا يقع طبقا لآراء فقهية في الشريعة الإسلامية، فإن طلاق الغاضبين البريطانيين وقع فعلا ولم يفلح معه ندم بعضهم الذين ندموا على هذا الخيار وهم يرون آثاره الكارثية على الجنيه الإسترليني وبورصة لندن.

لذا فإن الدرس الثاني هو أنه لا يمكن أن تتزوج لمدة 43 سنة ولا تتوقع في حال الانفصال أن يطالب أحد الأبناء وأكثر أن يختار العيش مع الشريك الآخر.

-3-
كثير من العرب والمسلمين ينظرون بتشفي في مستعمرهم القديم الذي كان سببا في تقسيم بلادهم وهو ينفصل عن إطاره الوحدوي الأوروبي ثم التهديد بتفكك ما بقي من أراضي الجزيرة التي يقيم عليها دولته. وينسى هؤلاء أمرين: أولهما أن الاستعمار القديم أصبح من الماضي الذي لا يدعو أحد في هذا البلد للفخر بل إلى الاعتذار أحيانا. والثاني هو أن الانفصال وقع بتأثير من الذين يحمل معظمهم نظرة عنصرية تجاه العرب والمسلمين، وذلك في مقابل أولئك الذين يرون سبيلا للتعايش معهم في إطار تعددية ثقافية ودينية تسمح للجميع بحرية الاعتقاد والعبادة. لقد كان الاتحاد الأوروبي نموذجا يحتذى لدى كثير من القوميين والعرب الطامحين لاتحاد يجمع العرب بعد أن فرق شملهم الاستعمار ثم التنافر والمصالح المتعارضة. وها هم يرون كيف تتفكك أولى عرى هذا النموذج.

والدرس الثالث هنا هو أن لا تبقى أسير هزيمتك السابقة، فمشاكلك قد تغيرت وعدوك قد تغير ولا جدوى من الإلحاح على منازلته في معركة لم يصبح لها وجود.
0
التعليقات (0)