صرفت عصابة الأسد وحزب الله وإيران على السيطرة على طريق الكاستيلو أضعاف ما صرفته في حربها مع إسرائيل طوال أربعين سنة، مع أن الصراع مع إسرائيل، بالنسبة لتلك الأطراف، لا يمكن أن يتم إدراجه ضمن مفاهيم الحروب ومعانيها الاستراتيجية، بقدر ما يجوز تسميتها اصطلاحاً جولات للتفاوض أو للتوظيف السياسي.
معركة حلب هي المعركة الاستراتيجية الكبرى، هكذا أطلق عليها أمين عام حزب الله حسن نصر الله، وتحت هذا الفهم جرى إجراء الترتيبات اللوجستية والخطط الاستراتيجية، وحلب تلك ليس فيها سوى أبناؤها المدافعون عن أنفسهم من غدر عصابة قرّرت الانتقام منهم لأنهم تجرؤوا وقاوموا عربدتها وحقدها.
ودائما ما تجنب الجزء الأكبر من مثقفي سورية المؤيدين للثورة تفسير ما يحصل في بلدهم من منطلقات ومفاهيم طائفية، اعتقدوا أن هذا الأمر من شأنه التقليل من قدر ثوة شعبهم ونضاله ضد الطغيان والاستبداد، تحايلوا على الواقع عبر رد أسباب الثورة ونكبة الشعب السوري إلى وجود نظام مستبد وجهات إقليمية لها مصلحة في بقائه، لأسباب سياسية وضرورات استراتيجية، وأوغلوا في هذا التفسير لدرجة قبلوا معه أن يسموا هذا الحلف بـ"المقاومة" مرّة" و"الممانعة" مرّات، وطالما أطرب هذا الوصف الحلف الموغل في الدماء السورية والمعادي لجزء كبير من الشعب السوري.
لكن ترى أي ضرورات استراتيجية تلك التي تجعل من تحالف عصابة الأسد ونظام الملالي في إيران وحزب الله وميليشيات العراق وأفغانستان وباكستان يصرّون على حصار نصف مليون نسمة في حلب وهم يدركون أن هذه العملية سوف تسهم في قتل الأبرياء والأطفال وكبار السن؟ تماماً كما فعل الحصار في مضايا والزبداني والغوطة الشرقية! وأي مكسب ذلك الذي يجعل إعلام حلف الحصار ذلك من إبداء البهجة واعتبار الأمر نصراً يستحق الفخر؟
التفسير الأقرب لذلك أن هذا الحلف يعتبر أن الحصار يشكل أحد أنماط الحرب على الخصوم، وأن الدول المتحاربة طالما تلجأ إلى هذا النمط في فترات الحروب، وهو لا يختلف عن الأنماط الأخرى القائمة على المواجهة بين المقاتلين عن قرب أو القصف والاستهداف بالأسلحة البعيدة المدى "الصواريخ والطائرات"، وبالتالي ليس من المستغرب استخدام الحصار طالما أن الحالة التي يحصل بها هي حالة حرب.
لكن في كل الحالات كان الحصار عملا لا أخلاقيا، وخاصة وإذا تم استخدامه ضد المدنيين ومن أجل توظيفه في كسب الحرب على المدى البعيد والضغط على الطرف الآخر لدفعه إلى الاستسلام، كان ذلك يمثل أكثر أنماط الصراع بؤساً لما ينطوي عليه من احتمالية كبيرة بحصول حالة قتل جماعي، ودائماً يتم إدراج الحصار في إطار جرائم الحرب مثلها مثل قتل المدنيين عمداً الذين يقعون تحت احتلال الطرف الآخر، أو عمليات قتل الأسرى من الفريق الآخر، ومن المفارقة أن هذا النمط من الحرب لم يعد يمارسه طرف دولي بإستثناء إسرائيل ضد قطاع غزة، وإسرائيل تلك يدّعي حلف إيران خصومتها نتيجة مماراساتها القائمة على الحصار والإبادة والاقتلاع، فيما يطبق هذا الحلف نسخة مشابهة لأعمال إسرائيل في
سوريا!
وفي حالة حصار حلب من قبل القوى الآنفة الذكر، تتضاءل الخيارات أمام الأطراف المحاصرة، وهم في الغالب مدنيون وتشكيلات قتالية أقرب للحماية الذاتية منها إلى التشكيل العسكري الاحترافي أو حتى الميليشياوي، ذلك أن القوى التي تمارس الحصار ليست جيوشا تتبع لدول وتلتزم قوانين الحروب ولا يوجد أطراف دولية تراقب ما يحصل أو تضمن سلامة المحاصرين، وفي مثل هذه الحالة يصبح الاستسلام والرضوخ من أجل فك الحصار أو كمخرج وحيد للمحاصرين عملاً مساويا تماماً للموت في ساحة المعركة لكن عبر تسليم المحاصرين لأنفسهم كي يتم قتلهم بصمت وبدون أية مقاومة ممكنة.
حرب سورية، وحصار حلب بالتحديد هي عمل طائفي بامتياز تمارسه قوى تنتمي للون مذهبي واحد، ولا تخجل من حربها هذه، بل تفتخر بها لدرجة تعتبرها حربا مقدسة، حتى إنها باتت ترى أنها لم تعد بحاجة للتورية على أعمالها، ومن الغريب أن ثمّة من لا يزال يصف هذه الأطراف بـ"المقاومة" وثمّة من لا يزال يغطي دعمه لعصابة الأسد بقشّة هذا الشعار، ولم ينتبه أحد إلى أن إسرائيل تعيش في هذه المرحلة بأمن وأمان، بل أنها تحوّلت عبر صحافتها وتصريحات مسؤولي الاستخبارات والجيش إلى داعم معنوي وموّجه لـ"حزب الله" في حربه على السوريين، عبر بثها لدعايات من نوع أن الحزب يكتسب خبرة كبيرة في هذه الحرب، وأنه بات أحد القوى الإقليمية المرهوبة، ويتلقّط حزب الله مثل تلك التصريحات ويعيد بثها لجمهوره علّها تشكّل دعماً لتوجهاته العدائية في سوريا وتبرر حجم الخسائر الكبيرة التي يتلقاها على جبهات القتال.