بعد احتفال
تونس بالعيد الوطني للمرأة، وبعد أن تعمد الرئيس الباجي قائد السبسي تكريم فئة معينة من السيدات المنتميات إلى "العائلة الديمقراطية" وإقصاء المحجّبات، عادت قضية المرأة وما تثيره من اصطفافات سياسية واحتقان إيديولوجي إلى السجال العمومي. فرئيس الجمهورية الذي هو نظريا رئيس كل التونسيات -بصرف النظر عن اختياراتهن الفكرية والسلوكية- تصرّف في هذا الحدث الرمزي وكأنه رئيس "النساء الحداثيات" دون باقي النساء خاصةً المتدينات منهن -بمن فيهن المنتميات إلى حركة النهضة شريكه الأبرز في الائتلاف الحاكم-. ولا شك في أن السلوك السياسي هو انعكاس لجملة من البناءات النظرية والأنساق الحجاجية التي تعطي لذلك السلوك صفة المعقولية، بل صفة البداهة. وبناء على ما تقدم من معطيات موضوعية، ينطلق هذا المقال من فرضية يطرحها للنقاش العام وهي التالية: لا يمكن لسياسات تحرير المرأة -ولتشريعات التمييز الإيجابي المصاحبة لها- أن تكون أداة تحريرية لكل النساء إلا عندما نخلّصها من الاستراتيجيات النسوية التي تعيد إنتاج خطابات الهيمنة الذكورية بمفردات مختلفة، أي لا يمكن تحرير المرأة إلا إذا اعترفت المرأة نفسها بأنها متعددة وغير قابلة للاختزال في أي نموذج ثقافي مهيمن أو مهمّش ومقموع.
تحرص أغلب النخب الحداثية على تكريس "المسألة النسوية" باعتبارها مركز الصراع بينهم وبين الإسلاميين، بل مركز الفرز الإيديولوجي والاصطفاف السياسي. وتدير النخب الحداثية صراعها ضد الإسلاميين —بل ضد الموروث الفقهي الإسلامي على اختلاف مراتبه في الحجية والإلزام- من منظور "ثقافوي" يجعل من قضية المرأة "مركز" الاختلاف أو مركز الصراع "اللامتكافئ" قيميّا بين الخطابين: خطاب "قوي" وإنساني وتقدّمي يخدم قضية المرأة –وهو "حصريا" الخطاب العلماني المرتبط وظيفيا بالدولة القُطرية وبسياسات التحديث الفوقي والقسري التي اعتمدتها-، وخطاب "هشّ" معرفيا ومتمذهب و"رجعي" يقدّم أطروحات "ارتكاسية" و"رجعية" في المسألة النسويّة -وهو حصريا خطاب الإسلام السياسي بمختلف تفريعاته الإخوانية والسلفية، بل هو "الرؤية الإسلامية" للكون، تلك الرؤية التي يتهيب الكثير من العلمانيين مواجتها مباشرةً ويخيرون مواجهتها عبر التصدي لكل الخطابات السياسية التي تحاول تفعيل أو إعادة تشغيل الاختيارات التراثية-.
ولا يخفى أنّ هذه الثنائيات "المانوية" –بحكم أصلها الميثولوجي الذي هو ثنائية النور والظلمة- لا يمكن أن تصمد كثيرا أمام استقراء الوقائع في "الدول الوطنية" العربية التي لطالما تغنّت بمكاسب المرأة -خاصةً منها تونس-. فهذه الدول في الحقيقة قد "أنّثت" الدين -عندما جعلته مرتبطا بالضرورة بالفضاء الخاص وأبعدته عن المجال العام-، وهي أيضا قد أنّثت كل المجتمع لكي لا يبقى إلا "ذكر مهيمن" واحد هو صاحب السلطة. وهذه الاستعارة المقتبسة من عالم الحيوان مفيدة جدا في فهم آيات اشتغال العقل السلطوي عندنا، ذلك العقل الذي ظلّ يشتغل بطريقة لاواعية ضمن منظور "الحريم السلطاني"، لكن بعد أن تمّت عملية "تعميمه" و"علمنته" و"تقنينه" بطرق "حداثية" ظاهريا.
من الواضح أن ممارسات الكثير من النخب الحداثية -وآخرها سلوك مؤسسة الرئاسة يوم عيد المرأة-، تسعى إلى تأجيج الصراع الثقافوي وإلى تكريس أدوات التزييف الإيديولوجي وآليات الخداع السلطوي التي لن يستفيد منها –في التحليل الأخير- إلا أولئك المهيمنون على الثروات المادية والرمزية، الراغبون في تأبيد منظورات ثقافوية وقضايا هووية تحرف الأنظار عن الجوهر الاقتصادي للصراع. وهو ما يفرض على المشتغلين بالشأن العام أن يفكّروا بطريقة تجعل السياسيين، بل كل منتجي الرموز مجبرين على مفارقة مواقعهم التقليدية التي لا وظيفة لها إلا تأبيد الأزمة المجتمعية ومنع انبثاق أية مقاربات إصلاحية حقيقية. ولعل التفكير في مبدأ التمييز الإيجابي بطريقة تتخارج في الآن نفسه مع الخطابات العلمانوية المهيمنة ومع خطابات المظلومية الإسلاموية سيساعدنا على إنتاج خطاب ثالث قد يكون هو الأكثر فاعلية في ترسيخ قيم المواطنة التي نطمح إليها جميعا مشتركا قيما وتشريعيا في الجمهورية الثانية.
مارست المرأة الحداثية -ومازالت تمارس- عنفها الرمزي ضد المتحجبة لأنها ترى فيها كائنا يجسّد الدونية الأنطولوجية والتشريعية التي وُصمت بها المرأة تراثيا، بل كائنا يستبطن تلك الدونية ولا يتردد في تبريرها من منطلق إيماني. وهي -أي المرأة الحداثية- تمارس ذلك العنف باعتباره أداة لحماية مكتسباتها، وباعتباره أيضا أداة لتحرير المرأة المتحجبة التي تعيش اغترابا مزدوجا: اغترابا عن روح الديانة الإسلامية واغترابا عن المنظومة الحقوقية الكونية. وتؤكد "الحداثية" أنها أكثر عقلانية وحرية واكتمالا من المتحجبة، بل تؤكد أنها هي من يحق له تمثيل المرأة التونسية مما يجعلها تذهل عن حقيقة استقرائية بسيطة وهي أنها لا تمثل إلا جزءا من الطيف النسوي ولا يمكن أن تمثل جميع النساء إلا في مستوى الادعاء أو الرغبة. أما المرأة المتحجبة التي عاشت طيلة حكم بن علي -وإلى الآن في العديد من المجالات- موضوعا للتمييز السلبي، بل موضوعا لقمع مزدوج –قمع ذكوري وقمع أنثوي حداثوي- فإنها هي الأخرى لا تسلم من استبطان مفردات الهيمنة الذكورية ومن إعادة إنتاجها على الجسد الأنثوي "الحداثي"، ولكن بصورة تعيش فيها أفضليتها في مستوى قيمي متخيل (الشرف والتقوى الخ) أكثر مما تعيش تلك الأفضلية في مستوى خطابات نسوية إسلامية عمومية، على عكس الخطاب النسوي الحداثوي الذي يكاد يهيمن على مجمل الفضاءات العامة باعتباره الخطاب المرجع أو الخطاب الكبير.
أمام هذه الوضعية التصادمية التي تعمق الانقسام الاجتماعي، قد يكون من المفيد فرض مبدأ المناصفة بين النساء المترشحات لمجلس نواب الشعب ولباقي المناصب السيادية على أساس اللباس -بدءا من المجالس البلدية مرورا بالمجالس الجهوية ووصولا إلى كتابات الدولة والوزارات والمستشارين في رئاستي الحكومة والدولة-. ويُشترط في هذا التمثل الجديد للتمييز الإيجابي أن تكون على رأس المترشحات في قائمات الأحزاب ذات المرجعية الإسلامية امرأة غير متحجبة بالضرورة، كما ينبغي أن تكون المرشحة الأولى على قائمات الأحزاب العلمانية متحجبة بالضرورة. فلا معنى للمناصفة بين الرجال والنساء إذا كانت المناصفة بين النساء أنفسهن غير موجودة، وإذا ما كانت الأحزاب الكبرى تعيد إنتاج الانقسام الاجتماعي وتعمل على تأبيده بتوظيف الجسد الأنثوي، كما أنه لا معنى للمناصفة إذا ما كانت الكثير من النساء -الإسلاميات والعلمانيات- يُعدن إنتاج منطق الهيمنة الذكورية ضد بعضهن البعض لكن بمفردات مختلفة. فمبدأ المناصفة الذي لا يساعد على تجاوز التمثلات النمطية المهيمنة في الجهتين الإسلامية والعلمانية هو مجرد صياغة إنشائية لا قيمة لها في الواقع، اللهم إلا في تكريس وضعيات اللاتكافؤ الاجتماعي وجعلها في حكم"البداهة". وقد يعترض علينا البعض بأن منطق المناصفة على أساس اللباس سيزيد في ترسيخ الانقسام داخل المجتمع التونسي، وهو اعتراض متهافت لأنّ مبدأ المناصفة المعمول به الآن قد جاء لتعديل منطق السلطة والدفع بالنساء نحو مناصب قيادية لا يمكنهن بلوغها دون التمييز الإيجابي في مستوى التشريع، ولكن هذا المبدأ قد جُيّر واقعيا لخدمة فئة معينة من النساء دون غيرهن، مما يجعل من اعتبار اللباس في عملية التمييز نوعا من التطوير لتلك السياسات وليس انقلابا عليها.
انطلاقا من المبدأ ذاته، فإن مبدأ المناصفة سيصبح جزءا من الأزمة المجتمعية، بل جزءا من إعادة إنتاج المجتمع لنفسه إذا لم يتم الدفع به إلى مناطق كانت قبل الآن داخلة في إطار اللامفكّر فيه -أو مما يُمنع التفكير فيه خوفا من الإرهاب اللغوي الذي تمارسه النخب والعوام المؤدلجة-. ولا شك في أنّ أي شخص يستطيع انطلاقا من المعاينة -أو من الملاحظة العفوية- أن يقف على أن نساء تونس منقسمات واقعيا بين محجبات وغير محجبات بصورة تكاد تكون متساوية هندسيا، ولكنّ هذا الانقسام لا ينبغي أن يقودنا إلى استخلاصات مؤدلجة. فاللباس قد فقد جزءا كبيرا من دلالته الإيديولوجية الأصلية لأنّ المحجبة الآن -وهنا ليست بالضرورة نهضوية، بل ليست بالضرورة متدينة، كما أن غير المحجبة ليست بالضرورة فرنكفونية أو علمانية أو معادية لمظاهر التدين التي لا تجد نفسها فيها-. وبناء على ما تقدم فإن كاتب هذا المقال يذهب إلى أنّ الأخذ بمتغير variable اللباس في التشريع سيكون عاملا مهما في تفتيت الاصطفافات الإيديولوجية وفي تخفيف حدة الاحتقان الاجتماعي، بل في تغيير بنية الحقل السياسي ذاته بطريقة تساعد على اجتراح حلول جديد لمشاكل لا يمكن حلها بالمنطق السائد، وذلك لأنّ الاعتراف بالنساء في طيفهن الواسع -بلا تمييز ولا إقصاء- هو رسالة يبعث بها الفاعلون الجماعيون إلى النساء كافة، رسالة مفادها أن النخبة السياسية قد اعترفت بهن كما هنّ في الواقع وليس كما تريدهن الإيديولوجيا أو متطلبات التحشيد الانتخابي أن يكنّ.