قريباً سيغادر السيد
أوباما البيت الأبيض دون رجعة، ولكنه لن يغادر كتب التاريخ، وسيحضر اسمه دائما كشاهد على عجاف سنوات القرن الحادي والعشرين وأرذلها، لأنه جعل بلاده تمارس دور المتفرج على ما يجري في الساحة الدولية، متراجعا خطوات إلى الوراء لحساب الخصم "اللدود"
روسيا لتكون هي اللاعب الأبرز في الشرق الأوسط، وهذا بعكس ما اعتاد عليه أسلافه الذين جلسوا على الكرسي نفسه وأمضوا فترة حكمهم جاهدين لتحجيم الدب الروسي.
ثماني سنين هي فترة حكم أوباما للقوة الأكبر عالميا، ست سنين منها عاش فيها السوريون أبشع مأساة تعرض لها شعب منذ الحرب العالمية الثانية، وفي فترة حكمه ذاتها تخلى عن شعوب ثارت من أجل الديمقراطية والحرية، لكن سرعان ما عادت لترزح تحت وطأة حكم أشد إجراما من الحكم الذي ثارت عليه، كما حدث في مصر وليبيا واليمن، وهي الفترة نفسها التي شهدت توتراً غير مسبوق بين تركيا الحليف المهم في حلف الناتو وروسيا العدو التاريخي للحلف الذي تشكل من أجل التصدي لها، دون حراك أو دعم للحليف التركي. وليس بعيدا، دول الخليج، تركت وحيدة تواجه
إيران المحتلة لدول عربية، وهي التي تعامل معها أوباما بانسيابية تامة في الملف النووي.
قد يكون صحيحا ما قاله البعض بأن سياسة أوباما تجاه خصومه ماكرة وناجحة، خصوصا وأنها أغرقتهم في صراعات وحروب من الصعب عليهم الخروج منها إلا منهكين. لكن الحقيقة تقول إن عهده شهد استخداما متكررا لسلاح كيميائي ضد شعب أعزل؛ أوباما نفسه اعتبره "خطاً أحمر"، وشهد أيضاً سقوط أكثر من نصف مليون مدني طالبوا في بداية ثورتهم بحماية دولية تدفع عنهم حقد البراميل المتفجرة والعنقودي والنابالم الحارق والصواريخ البالستية؛ التي دمرت مدنهم وبيوتهم وشردتهم في بقاع الأرض، حيث وصفت منظمات حقوقية وإنسانية ما يحدث بسوريا بأنه مأساة العصر.
لم يكن أوباما وحيدا في هذا الشأن، فلقد شهد التاريخ على الرئيس الأسبق جيمي كارتر الذي حكم الولايات المتحدة بين عامي (1977 - 1981) ضعفا مشابها، حيث أصيبت أمريكا في عهده بنكسات في إثيوبيا 1977، وأفغانستان 1978 - 1979، ونيكاراغوا 1979، وانقلاب الخميني على شاه إيران (حليف واشنطن) 1979. وقد قالت الصحافة الأمريكية آنذاك: "لقد كان كارتر هو القائد الخطأ".. أما اليوم فقلد قال السيناتور جون ماكين عن باراك أوباما إنه "رئيس ضعيف ليس في مستوى القوة الأمريكية".
الولايات المتحدة لم تضعف اقتصادياً ولا حتى عسكرياً، فالقوة النارية للأسطول السادس وحده تعادل القوة النارية لروسيا، ولكن تردد الإدارة الحالية وتراجعها؛ دفع روسيا وإيران إلى التسابق للتوصل إلى تسويات حول
سوريا ومنطقة الشرق الأوسط، اعتقادا منهما أن قوة الولايات المتحدة تخور، وأن الفرصة سانحة لكل منهما لملء الفراغ الذي ستتركه واشنطن في الشرق الأوسط.
لطالما تعهد أوباما في خطاباته الموجهة إلى الأمة الأمريكية بالدفاع عن المدنيين العزل وعن الأطفال حول العالم، لكنه تنصل من وعوده أمام المذبحة السورية، مبررا ذلك بأن بلاده لا شأن لها في حروب الآخرين، حتى عندما قرر توجيه ضربات عسكرية لنظام الأسد عقوبة له على استخدام السلاح الكيميائي في آب/ أغسطس 2013، تمكنت روسيا من منع حدوث ذلك، بعد محادثات سرية وما نتج عنها من اتفاق نزع السلاح الكيميائي.
ربما لو صادف حدوث ما يجري في الساحة الدولية وجود رئيس آخر غير أوباما؛ لما سمح بأن تتشارك طائرات بلاده مع طائرات روسيا سماء بلد واحد، ولا وجود لحلف في البلد غير الحلف ذاته الذي تقوده، ولا أن يكون وزير خارجيته ومهندس السياسة المهم في البلاد كـ"مندوب مبيعات" لا عمل له إلا إيصال العروض إلى موسكو.
إذا كانت سياسة أوباما "الناعمة" ناجحة في توريط الخصوم في صراعات طاحنة، إلا أنها ومن دون أدنى شك لا تناسب دور أعظم قوة في هذا العالم، لأنها ستفرض على الدول الحليفة لواشنطن إعادة حساباتها، وربما سيحدث هذا الأمر تغييرا في الاصطفاف الدولي الذي شكلته مع بداية الحرب الباردة، حتى الدول الأوروبية ستعيد النظر مع الحليف القوي، وهي التي لم تتوان يوما عن مشاركته في أي حرب قام بها لا في أفغانستان ولا العراق وليبيا ولا حتى الحرب على داعش.
لم تعد الولايات المتحدة اللاعب الأبرز في علاقات الأمم والمارد الاستراتيجي العملاق في المعادلات الدولية، سواء كانت حربية أو دبلوماسية أو اقتصادية، فلقد ساهم وجود أوباما بصعود روسيا للمشهد الدولي.
الرئيس الأمريكي باراك أوباما حجّم دور الولايات المتحدة عالميا، وانحصر دورها فقط بإطلاق التصريحات وبعض التهديدات التي لا تصل إلى مستوى التنفيذ. فخلال فترة جلوسه في المكتب البيضاوي غاب دور القوة المهيمنة التي تفرض الواقع السياسي والاستراتيجي الذي تريده، حتى وإن كان أوباما نفسه يرى بأن هذه السياسة جيدة، إلا أنها وبرأي كبار الساسة الأمريكيين كانت سيئة بكل المقاييس.