أخيرا، بعد فترة من التكهنات حول الحالة الصحية للرئيس الأوزبكي إسلام
كريموف، جاء الإعلان الرسمي بوفاته في يوم 28 أغسطس الماضي، وتشير تقارير إلى أنه قد توفي قبل ذلك، لكن ترتيب البيت الداخلي استدعى التريث في إعلان الوفاة.
إسلام كريموف اسم ارتبط بالاستبداد والقمع والقسوة في إقليم آسيا الوسطى وهو من الحكام المخضرمين الذين ورثوا حكم بلادهم منذ أيام الاتحاد السوفياتي، فهو يجلس على سدة الحكم منذ عام 1989 عندما تم تعيينه سكرتيرا أولا للحزب الشيوعي في
أوزبكستان، الأمر الذي يعني أنه هو الحاكم الأول، ولا يزال يعاونه في حكم البلاد زملاؤه السابقون في الحزب الشيوعي أو أبناء زملائه الذين توفوا، وفي عام 1991، كان هو أول رئيس في جمهوريات آسيا الوسطى يعلن استقلال بلاده عن موسكو، وهو ما لم تنسه له النخبة الروسية، تراوحت علاقته مع موسكو فهو لا يلجأ إليها إلا إذا ساءت علاقته مع أمريكا، يلمح البعض إلى أن هذا هو سبب عدم حضور الرئيس الروسي لجنازته، يجري انتخابات في بلاده ويفوز فيها بنسبة 90%، أقام جدارا حديديا حول بلاده فمطار العاصمة طشقند لا يوجد به إلا مدخل واحد يتبعه منصات تفتيش متتالية تسبق الوصول إلى منصة الجوازات، ولا يوجد في ظل حكمه إعلام مستقل ولا مجتمع مدني.
أقام كريموف نظام حكم شديد المركزية من خلال هيكلية محكمة تضبط كل حي تسمى (محلة)، وتحت قيادته قامت الدولة بسجن الآلاف من المواطنين بسبب آرائهم السياسية والفكرية، لا شيء اسمه معارضة في أوزبكستان فهي إما في السجن أو في المنفى أو تحت التراب، وتشير تقارير حقوقية إلى أشكال من التعذيب منها غلي المساجين وهم أحياء كما حدث مع المعارضيْن الإسلامييْن مظفر أفازوف وحسن الدين عليموف الذين استلمت عائلتاهما جثمانهما عام 2002 وآثار التعذيب ظاهرة عليهما وكان سبب الوفاة هو الغمر في الماء المغلي حسب تقرير موثق لمنظمة هيومن رايتس ووتش.
قمع بقسوة انتفاضة في منطقة انديجان عام 2005 وأطلق النار على المتظاهرين فقتل 187 شخصا حسب التقارير الرسمية، لكن حسب المنظمات الحقوقية فالأرقام أعلى بكثير. واستطاع أن يلعب على وتر محاربة الإرهاب والتطرف الإسلامي حتى وهو يقاوم الاحتجاجات المطلبية الاقتصادية والاجتماعية.
المنطق الذي يستخدمه نظام كريموف لتبرير قمعه هو حرصه على الاستقرار والأمن في منطقة ملتهبة فهناك معارضة إسلامية حقيقية لنظام حكمه خصوصا في انديجان ووادي فرغانة كما أن بلاده تجاور بلدين غير مستقرتين وهما أفغانستان جنوبا وطاجيكستان في الجنوب الشرقي، لذلك فما ينطبق على الجمهوريات التي اتخذت سياسات إصلاحية مثل كازاخستان وقيرغيزيا لا ينطبق على أوزبكستان المهددة، خصوصا وأن جناحا من الحركة الإسلامية الأوزبكية قد بايع تنظيم الدولة.
من هو الرئيس القادم؟
حسب منطق الحكام الفرديين المعروف فإنه لا مجال لوجود شخص ثان قوي في الساحة السياسية، لأن هذا يعني ببساطة تهديدا محتملا لنفوذهم، وصاحبنا كريموف لم يشذ عن هذه القاعدة، بل إنه حتى عندما لمع نجم ابنته جلنارا في عام 2014 كناشطة في المجال الحقوقي قام بوضعها في الإقامة الجبرية، رغم إنها ليست بتلك الشخصية المحبوبة في أوزبكستان خصوصا في وسط رجال الأعمال الذين عانوا من تدخلاتها في أعمالهم؛ لذلك يستبعد المراقبون أن تلعب عائلة الرئيس الراحل دورا سياسيا في المرحلة القادمة، لكن سيبقى لها مكانتها ووضعها حفاظا على استقرار البلد، وهذا يتوقف على (حسن) سلوكها.
منذ لحظة وفاته والحديث يدور عن ثلاثة مرشحين محتملين للرئاسة:
الأول: هو رئيس وزرائه شوكت مرزايف وهو يعتبر امتدادا طبيعيا لحكم كريموف بل ربما هو يفوقه قسوة حسب بعض المراقبين.
الثاني: هو نائب رئيس الوزراء ووزير المالية رستم عظيموف والذي يقول عنه خصومه بأنه ذو توجهات غربية وهو أول من سرب خبر وفاة كريموف.
الثالث: هو رئيس الاستخبارات الوطنية رستم عناياتوف وهو شخص قوي بحكم موقعه وله دوره في تثبيت نظام كريموف إلا أنه من الشخصيات التي تفضل العمل في الخفاء كما أنه كبير السن (72 عاما).
وأكثر الخيارات احتمالا هو الاختيار الأول شوكت مرزايف، ويعضد هذا الخيار عدة شواهد أولها أنه تم تكليفه بإدارة مراسم الجنازة وثانيها أنه تم تعيينه يوم 8 سبتمبر رئيسا مؤقتا للبلاد لحين إجراء انتخابات رئاسية وهو تصرف يقفز فوق الدستور الذي ينص على تولي رئيس البرلمان للرئاسة مؤقتا فترة لا تزيد على ثلاثة شهور عندما يصبح رئيس البلاد عاجزا عن أداء مهامه أو عند خلو منصبه، وثالثها أن عملية التأخير في إعلان وفاة كريموف تشير إلى إنهاء ترتيبات الخلافة بسلاسة وفق توافقات معينة ويبدو أن رئيس الاستخبارات يدعم ترشح مرزايف.
وهذا يعني أن سياسات الرئيس القادم –فيما نقرؤه حاليا- لن تختلف عن السابق اختلافا جوهريا إلا ما هو متعلق بالفرق بين ظروف الرئيسين فكريموف لم يكن فقط الزعيم المعبود الأوحد بل هو أب الاستقلال ومؤسس الدولة وهي ألقاب لن يستطيع أن يتملكها الرئيس القادم، وفي هذه الحالة ستكون البلد عبارة عن بركان نائم.
مخاطر محتملة
أمام السلطة الآن جملة من التحديات الحقيقية التي يجب أن تأخذها في الحسبان فاللعب على وتر محاربة الإرهاب والتطرف للحفاظ على الأمن والاستقرار لن يعود مجديا في المستقبل القريب، ومحاولة فرض نظام علماني إقصائي في بلد مسلم سيأتي بنتيجة عكسية خصوصا في بلد متعرج اقتصاديا، وفي ظل دولة تعاني من شيوع الفساد الإداري والمالي في الطبقة الحاكمة وتعاني فروقات طبقية وعرقية ويغيب عنها الأيديولوجيا المرنة والجامعة، ويشهد فضاؤها السياسي تصحرا تاما، في ظل هذه الظروف يصبح باب التطرف هو الباب الوحيد المتاح أمام الشعب للتغيير.
ورغم اعتماد أوزبكستان في اقتصادها على روسيا بشكل أساسي فقد أدى انخفاض أسعار النفط وتراجع سعر العملة إلى انخفاض تحويلات العاملين الأوزبك في روسيا إلى النصف تقريبا لتبلغ من 3 إلى 4 مليارات دولار هذا العام، وبالتالي فالبلد بحاجة للاستثمارات الأجنبية لتعويض هذا النقص (القليل أصلا) وهذه الاستثمارات لن تأتي في ظل خوف رجال الأعمال من استيلاء المتنفذين في الدولة على تجارتهم.
إن سياسة الحديد والنار التي بدأت منذ تسعينات القرن الماضي لا يمكن لها أن تستمر في عصر التطور التكنولوجي والفضاء المفتوح، ولا بد من رفع القبضة عن الشعب ليس فقط في المجال السياسي بل والاجتماعي والاقتصادي، ليكون لهم فسحة في التعبير عن الرأي وممارسة شعائرهم وفق معتقداتهم الإسلامية، وممارسة الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية بحرية، وإلا فإن انفجارا قادما في تلك المنطقة التي تتشابه أوضاعها مع الأوضاع العربية عشية اندلاع الثورات.
مستقبل العلاقات الدولية
أمام أوزبكستان الآن فرصة لتحسين علاقاتها مع دول الجوار فقد كانت الطبيعة الصعبة لشخصية كريموف تحول دون ذلك وخصوصا مع طاجيكستان وقيرغيزيا، فالمشاكل بين هذه الدول ليست بتلك التعقيد و، لكن يمكن حلها في حالة وجود قيادات عاقلة، على سبيل المثال تسعى حكومة رحمانوف في طاجيسكتان لإقامة عدة سدود كهرومائية لتوليد الطاقة على الأنهار التي تنبع من طاجيكستان لأوزبكستان مما سيكون له آثار سلبية على القطاع الزراعي في البلد، كذلك توجد مشاكل حدودية ناجمة عن التداخل العرقي في تلك البلاد بين القوميات الأوزبكية والطاجيكية والقرغيزية، وهي مشاكل لها جذور تاريخية منذ زمن الاتحاد السوفياتي الذي قسم منطقة آسيا الوسطى تقسيما إداريا لم يراع الجانب التاريخي والقومي.
على مدى السنوات الماضية بنت أوزبكستان علاقتها مع المجتمع الدولي وفق النموذج الذي أسمته (الانعزالية اللامعة) وهو نموذج كان ينحو للانعزال بأقصى قدر عن المجتمع الدولي إلا في أضيق الحدود، والاعتماد أساسا على الموارد المحلية وعدم المشاركة القوية في المنظمات الدولية، وتفضيل العلاقات الثنائية على العلاقات المتعددة، والحرص على المشاركة في التجمعات الدولية بأقل مستوى من الوفود، بل حتى منظمة شنغهاي للتعاون فقد انضمت إليها متأخرة عن شقيقاتها. و، لكن هذه السياسة لم تعد تصلح لمواجهة التحديات التي تعاني منها البلاد بل وحتى في عهد كريموف ورغم نزعاته الاستقلالية عن موسكو إلا أنه تحول تدريجيا في نهاية الأمر باتجاهها ومن المنتظر أن يواصل خليفته نفس النهج.
الجارتان القويتان موسكو وبكين
بسبب الموقع الجيوسياسي المتميز لأوزبكستان في قلب آسيا الوسطى تبدي كلا من موسكو وبكين اهتماما خاصا لتلك البلاد يتراوح هذا الاهتمام بين التعاون في بعض المجالات والتنافس في مجالات أكثر، لكن كلا منهما مهتمان في المقام الأول باستقرار أوزبكستان بغض النظر عن طبيعة الحكم القائم فيها فرديا كان أو ديمقراطيا، لذلك كان تأسيس منظمة شنغهاي للتعاون تأسيسا لدواع أمنية في الأساس لحماية منطقة آسيا الوسطى من الإرهاب.
وتعد روسيا صاحبة المصلحة الأكبر في استقرار أوزبكستان؛ فهي تنتمي لنفس المجال الحيوي الأوراسي الذي تنتمي إليه، وهي تخشى أنه في حالة اندلاع الاضطرابات الاجتماعية في أوزبكستان فإن احتمالية انتقال أحجار الدومينو لجميع جمهوريات آسيا الوسطى قائمة وبقوة، وستواجه روسيا في تلك الحالة أمواجا من اللاجئين وعبئا اقتصاديا جديدا وستتعطل رؤيتها في التكامل الأوراسي، كما توجد خشية من امتداد نشاط الإسلاميين المتطرفين إلى داخل روسيا في منطقة حوض نهر الفولغا.
لذلك فالتعاون الأمني بين روسيا وأوزبكستان لم ينقطع، والحرص الروسي على انتقال الحكم بسلاسة شديد، ولا يستبعد المراقبون تدخلا عسكريا روسيا في أوزبكستان لتثبيت الحكم في حالة اندلاع ثورة مسلحة.
أما الصين فبالإضافة إلى أن أوزبكستان تعتبر معبرا لتوصيل مشتقات المحروقات من تركمانستان إلى الصين، هي تنظر أيضا للمنطقة باعتبارها أهم حلقة في المشروع الجيوسياسي الصيني العالمي لطريق الحرير الهادف لإعادة توجيه طريق التجارة العالمي الرئيسي من آسيا لأوروبا عبر الطرق البرية بدلا من البحرية، وهو مشروع حيوي استثمرت فيه الكثير من الأموال في البنية التحتية في المنطقة، كما أن تدهور الوضع في المنطقة من شأنه أن يؤثر على أوضاع المسلمين الإيغور في منطقة شينغيانغ ذاتية الحكم.
أما بالنسبة للأمريكان فسياستهم مترددة في المنطقة كما هي سياسة أوباما بشكل عام، لكن حالة من الفوضى في المنطقة قد يفضلها الأمريكان على المدى القريب والمتوسط لأنها ستؤدي إلى الاستقرار على المدى البعيد.
من مصلحة واشنطن اشتعال المنقطة لأنها ستؤلم (خاصرة) روسيا الجنوبية، وتؤثر على المناطق المسلمة فيها وتنهكهما معا، وتثقل كاهل روسيا بالنفقات مما سيؤدي في النهاية في أقل الحالات إلى إشغالها عن أوكرانيا وتوفير أوراق ضغط بيد الأمريكان في مفاوضاتهم مع الروس حول المنطقة العربية.
حاول الأمريكان اختراق أوزبكستان من خلال (الثورات الملونة)، لكن سياسة كريموف الحديدية حالت دون ذلك، كما أدت الانتقادات التي وجهتها واشنطن له عقب قمعه للمعارضة في 2005 إلى إغلاق القاعدة الجوية الأمريكية في أوزبكستان، لكن لا يزال الأمريكان يملكون أوراق قوة ناعمة يستطيعون من خلالها التأثير على الوضع في أوزبكستان، لكن، ليس بنفس القدر الذي يملكه الروس والصينيون.
وعلى كل حال فأوزبكستان دولة إسلامية عزيزة علينا ويجب توجيه الأنظار إليها والاهتمام بها، ورغم أنه لا تغيير جذريا يلوح في الأفق إلا أن المنطقة على فوهة بركان، والعالم يتقلب بسرعة، والتغيير هناك سيؤدي لتغيير في منطقة حيوية جدا من العالم، وعلى المسلمين أن يفهموا اللعبة الدولية جيدا فلا يتم كالعادة توظيفهم كأداة في حروب الآخرين القذرة.