صرخة #خريج_التوك_توك المصري ترددت أصداؤها في أماكن عديدة. ربما تغيرت الأولويات بين مصر وتونس وأقطار عربية أخرى، لكن يبقى الهم الموحد هو "العدالة"، ليس بمعناها السياسي فحسب، أي الديمقراطية، بل الأهم بمعناها الاقتصادي والاجتماعي. صرخته كانت من أجل العدالة في التمتع بنظام صحي يحفظ كرامة الناس، ونظام تعليمي يحرر الناس من الجهل ويسمح بارتقائهم اجتماعيا، والاستثمار في الفلاحة، أي في أهم ثروة عربية تعرضت وتتعرض للتهميش ويتم تشتيتها لصالح اللوبيات، ومن لا يوظفها للصالح العام. هذه المعاني والأماني موجودة أيضا في تونس عبر الالتفاف المدني والسياسي حول واحة جمنة، مثلا، حيث اجتمعت أطراف متعارضة سياسية فقط على قاعدة العدالة لأهالي قرية تعرضت لضيم الاستعمار الزراعي، ثم لتسلط الدولة الزبونية.
ورغم أن تونس حافظت على حد أدنى من الديمقراطية وحرية التعبير، بعكس الوضع المصري الغارق في حالة فاشية غير مسبوقة، بدت فيها صرخة مواطن على التلفاز حدثا في حد ذاته، إلا أن هناك نظراء لـ"خريج التوك توك" المصري في تونس بالمشاعر الحارقة ذاتها، والأماني والطموحات ذاتها: صحة وتعليم واقتصاد يسمح بحفظ كرامة الناس. في نهاية الأمر لم تكن الثورات والانتفاضات التي عصفت بالمنطقة إلا التعبير السياسي المركز لطلبات وحاجات تتعلق بالكرامة الاقتصادية والاجتماعية، في مواجهة وضع عربي عام يشجع الفساد لمصلحة فئة اجتماعية مغلقة تحتكر الثروات.
هناك نظراء اأضا لخريج التوك توك في تونس، من حاملي الشهادات الذين لم تعد تعنيهم كثيرا شهاداتهم، ولا يهمهم أن يكونوا "خريجي تعليم عال"، يرون أن النظام التعليمي القائم يتعامل معهم كأرقام، وليس كمشاريع تساهم في بناء مشروع أكبر، هو مشروع وطن جديد.
قضية جمنة تلخص كل قضايا خريجي التوك توك، طموحاتهم في التعليم والصحة وتحرير ثرواتهم وأهمها الفلاحة. التفاصيل التاريخية لواحة جمنة هي بمنزلة قصة وطن. نقل أيمن حسين أحد نشطاء جمنة وكاتب في تاريخها ما يلي: "تعود جذور المسألة إلى سنة 1912 لما أفتك المستعمر أرضا على ملك أهلنا في جمنة… ضيعة فلاحية واحة نخيل تنتج أجود أنواع التمور دقلة نور تمسح 306 هكتار."
يضيف حسين: "استرد الجمنيون أرضهم في 12 جانفي 2011 أي قبل فرار المخلوع بيومين، وها هم اليوم يسيرونها في تجربة تسيير ذاتي واشتراكية و حوكمة محلّية باقتدار ندر وجوده، للدلالة على هذا بلغ محصول السنة الحالية مبلغ مليار و 800 مليون ويشغلون اليوم 137 عاملا دون اعتبار العملة الموسميين في الضيعة التي تحتوي 10603 نخلة… بعد الانتخابات شكلنا جمعية حماية واحات جمنة لتعوض لجنة حماية الثورة التي انتهت مهامها مع الانتخابات".
وعدد إيمن حسين إنجازات الجمعية وتتضمن عديد الأشياء التي لم تستطع الدولة توفيرها لأهالي القرية على مدى ستين عاما كما يلي: "ملعب حي للشباب- بناءات في المدارس- إعانة الجمعيات الرياضية والثقافية (فرقة مسرح المدينة و هيئة المهرجان)- إعانات مادية لمدرسة القاصرين ذهنيا و للمدرسة القرآنية وللمساجد ولجمعية إيثار التي تعطي منحا شهرية لـ15 طالبا - تجهيزات للمستوصف (حاسوب ومكيفات)- بناء سوق عصري في طور الإنجاز-إعانة النيابة الخصوصية في تهيئة الطرقات وإصلاحها- في الضيعة، شراء مجموعة من التجهيزات ووسائل العمل للضيعة: جرار مضخة وآلات مختلفة. إصلاح وصيانة الآبار. مع جمعيات الجهة، قدمنا إعانات لجمعيات توريس الثقافية وجمعية الطفل المتوحد وجمعية نخلة وجمعية مرضى السرطان وفرع الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، جمعيات ناشطة في مركز الولاية قبلي وليس في جمنة. نعمل حاليا على شراء سيارة إسعاف ستكون في خدمة محتاجي الجهة عموما وليس جمنة فقط. كما طلبنا من مهندس معماري إعداد مثال لقاعة رياضية بالمعهد".
ما يحدث في جمنة يفرض على الجميع فتح أحد أهم الملفات الحساسة، "الأراضي الدولية"، أو الأراضي المملوكة من قبل الدولة، وهي من أخصب الأراضي وترجع عموما لما بعد جلاء الاستعمار الزراعي ومغادرة "المعمرين" الفرنسيين أرض البلاد سنة 1964. أثار ذلك أمثلة أخرى، منها أحد الأراضي الدولية في حفوز (ولاية القيروان)، حيث نقلت وسائل إعلام محلية: "هنشير البارون يبعد 3 كم عن مدينة حفوز (القيروان) ويمتد على مساحة قدرها 1100 هكتار، ويحتوي على 80000 شجرة زيتون والآلاف من الأشجار المثمرة إلى جانب العديد من المشاريع الأخرى. وقع التفريط فيه من خلال عقد مطول لمدة 50 عاما بمبلغ زهيد جدا (20مليون تقريبا ) إلى أحد المستثمرين بطريقة سرية، ولم يعلن في يوم من الأيام عن البتة ولا موعد إجرائها رغم قيمته المادية والجغرافية. هنشير البارون الآن تحت استغلال رجل أعمال ابن نائب سابق في برلمان بن علي، وهو ورئيس الجامعة التونسية للمصدرين، الذي تتعلق بذمته قضايا فساد".
موضوع الفلاحة والأراضي المملوكة من الدولة والتدقيق في التصرف فيها، يجب أن يكون على رأس اهتمام الأطراف السياسية المعنية بتغيير المنوال الاجتماعي. وقد نظمت عند إدارتي سابقا للمعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية، وتحت إشراف رئاسة الجمهورية، بمناسبة عيد الجلاء الزراعي يوم 10 ماي 2013، ندوة حول "الأراضي الفلاحية الدولية : الجذور والواقع والآفاق"، حيث حاولنا فتح الموضوع وخاصة التشديد على أعتم شفافية مطلقة في كل عروض التسويغ السابقة منذ الاستقلال إلى الآن.
دمقرطة الحياة السياسية ستبقى بلا معنى دون دمقرطة الدولة، وهو ما يعني ضرورة دمقرطة الاقتصاد. مثلما أشرت سابقا، البديل الأساسي للمنوال القائم يحتاج الاستلهام من مدرسة "الاقتصاد الديمقراطي". ومن النماذج العملية في الاقتصاد الديمقراطي: تحرير الاستثمار الخاص لاسيما الصغير والمتوسط كآلية أساسية للتشغيل، عبر دعم نموذج "المؤسسة الاستثمارية التشاركية" (cooperatives) عوض "الشركات" (corporations)، بالاستئناس هنا بتجارب هذه المؤسسات العريقة والفعالة، ضمن السياق الرأسمالي نفسه في عدد من الدول، مثل: إسبانيا وإيطاليا. ويمكن هنا تقديم حوافز بنكية وعمومية (بما في ذلك توفير الدراسات)، خاصة لـ"التشاركيات" التي تجمع عددا من حاملي الشهادات العليا في البلديات الأكثر فقرا في تونس.
الفكرة الأساسية هنا أن "التشاركية" تخدم أعضاءها ومنسجمة مع المصلحة العامة، في حين "الشركة" تخدم الربح الدائم ولا تنسجم بالضرورة مع المصلحة العامة. وهذا يعني دمقرطة الشركات، أو دمقرطة رأس المال الخاص. لا يمكن إلا أن ندعم مطلب النيوليبرالية في مراقبة الدولة وكشف بيروقراطيتها أمام أي تعديل مواطني. لكن ذلك نصف الخصم، الخصم الآخر هو الدكتاتورية المقنعة في تسيير رأس المال الخاص، والمحدودية الكبيرة في شفافيتها بما يتيح احتمالات التحيل والفساد، بل والإضرار بالسوق بدافع الربح الجشع.