سألني صديقي لماذا تهرب بعض الشعوب من
الحرية وتختار القهر اختيارا طوعيا، رغم أن الإنسان ولد يوم ولد ومعه حريته حقا لصيقا بإنسانيته، فإن تخلى عنها صار عبدا لإنسان آخر لا يتفضل عنه في أي شيء غير القهر والتسلط المكتسبين من الأعوان الذين هم أيضا عبيد بقدر قربهم من المستبد الأول أو بعدهم عنه؟..
قلت نعم، إنها ظاهرة غريبة ناقشها الفلاسفة وعلماء الاجتماع منذ زمن بعيد، ووضعوا لها بعض التفسيرات النفسية (السيكلوجية) سنحاول تبسيطها..
في الواقع أن عنوان هذا المقال هو جملة لإريك فروم، في كتابه: "الهروب من الحرية" الذي يحكي فيه عن التجربة النازية، فيحلل هذه الظاهرة الغريبة على
الإنسانية، ويدقق فيما آلت إليه الشعوب من ألف للقهر، وخوف وتوجس من الحرية، الأمر الذي جعلها تدخل في "عبودية طوعية" للنظم المستبدة بعد أن انحرفت بوصلتها التي كانت مفعمة بالإنسانية، فصارت أقل تحسسا للمهانة والظلم، عاجزة عن دفع الاستبداد، بل أصبحت أكثر قابلية لاستقباله والتعايش معه.
يرى إريك فروم أن الشخص السوي أو الصحي من وجهة نظر المجتمع؛ هو ذلك الشخص الذي يقوم بدوره الاجتماعي في مجتمع معين على خير وجه، أما من وجهة نظر الفرد فتعرف الصحية أو السوية على أنها الدرجة العظمى لنمو وسعادة الفرد، الأمر الذي لا تقدم وسائل النهوض به مجتمعاتنا، وبالتالي تتقطع الروابط الأولية التي تعطي للفرد الأمان، فيواجه العالم خارجه بذاتية منفصلة تماما، ويكون أمامه اتجاهان: فإما أن يقهر الحالة التي لا تطاق (حالة العجز والوحدة) ويتقدم إلى "الحرية الإيجابية"، ويستطيع أن يتعلق على نحو تلقائي بالعالم في الحب والعمل، وفي التعبير الأصيل عن القدرات العاطفية والحسية والعقلية، وهكذا يستطيع أن يصبح مره أخرى متحدا مع الإنسان والطبيعة ونفسه، دون أن يتنازل عن الاستقلال والتكامل الخاصين بنفسه الفردية.. والاتجاه الآخر هو التقهقر والكف عن الحرية، والتنازل بشكل أو بآخر عن الفردية وتكامل النفس، تجنبا للأخطار، وهو حل لا يفضي بالطبع إلى السعادة والحرية الإيجابية. ثم يضع ثلاث ميكانزمات (أساليب) لتفسير ظاهرة الهروب من الحرية وحب القهر وهي:
1- النزعة التسلطية
وتعني الميل إلى التخلي عن استقلال النفس الفردية ودمجها في شخص آخر للحصول على القوة التي تنقصها، أو بمعنى أخر البحث عن روابط ثانوية جديدة كبديل عن الروابط الأولية التي تقطعت، وأشد الأشكال المميزة لهذا الميكانزم نجدها في الرغبة في الخضوع والهيمنة أو "السادومازوخية"، وهو مصطلح مكون من كلمتين الأولى: السادية وتعني لذة إلحاق الأذى بالآخرين، والثانية المازوخية وتعني حب الألم والقهر، ومن مظاهرها الشعور بالدونية والعجز.
واللاجدوى الفردية ومحاولة التخلص من عبء الحرية ومن تحليل الأشخاص المحاصرين بهذه المشاعر؛ تبين أنهم في الحين الذين يشكون من هذه المشاعر ويريدون التخلص منها؛ فإن قوة ما بداخلهم تدفعهم لاشعوريا إلى الشعور بالدونية واللاجدوى، ويظهر هؤلاء الأشخاص تبعية ملحوظة للقوى التي هي خارج أنفسهم، فهم عاجزون تماما عن معايشة شعور "أنا أريد" أو "أنا أكون". إنهم يشعرون بالحياة كشيء قوي مهيمن لا يستطيعون التحكم فيه أو السيطرة عليه، وهذا النوع من الناس يميل إلى توجيه الاتهام للذات ونقدها بشكل لا يستطيعه أعداؤها أحيانا.
وبجانب هذه الميول المازوخية نجد أن الميول السادية التي هي عكسها تماما توجد عادة في النوع نفسه من الأشخاص، وتشمل ثلاثة أنواع مترابطة بشدة، وهي:
الأول: هو الذي يجعل الآخرين يعتمدون على المرء وتكون لهم قوة مطلقة غير مقيدة عليهم، حتى أنها لا تجعلهم سوى آلات أو صلصالا في يد صانع الآنية.
الثاني: لا ليهيمن على الآخرين بهذه الطريقة المطلقة، بل لاستغلالهم والسرقة منهم واستنزافهم وقضم أي شيء يمكن أكله فيهم.
الثالث: هو الرغبة في جعل الآخرين يعانون أو أن يراهم يعانون، ويمكن لهذه المعاناة أن تكون جسمانية، وفي الغالب تكون معاناة ذهنية، وهدفها أن تؤذي الآخرين تماما، وأن تذلهم وأن تربكهم أو تراهم في مواقف مذلة ومربكة.
ومن أكثر التبريرات تردادا لدى الشخصية السادية - من وجهة نظر إريك فروم - هي التبريرات الآتية:
- إنني أفرض عليك قواعدي لأنني اعرف أفضل الأمور بالنسبة لك، ولمصلحتك عليك أن تتبعني دون معارضة.
- إنني فريد وعجيب، حتى أن لي الحق أن أتوقع أن يصبح الآخرين معتمدين علي.
- وهناك تبرير عقلي غالبا ما يغطي الميول الاستغلالية، وهو "لقد فعلت الكثير من أجلك، والآن أنا مخول لي أن آخذ منك ما أريد".
- وأكثر الدوافع السادية عدوانية يجد تبريرا لأفعاله بقوله: "إنني بتوجيه الضربة أولا؛ إنما أدافع عن نفسي أو أصدقائي ضد خطر التعرض للأذى".
إن السادي يحتاج إلى الشخص الذي يتحكم فيه أنه يحتاج إليه لدرجه مميتة، حيث أن شعوره بالقوة كامن في انه سيد إنسان ما.
إن "السادومازوخية" يمكن أن تكون تفسرا مناسبا للعلاقة بين شخص يمارس القوة والقهر والاستبداد؛ في مقابل أشخاص يشعرون بالدونية والعجز، ويتقبلون بطوعية العبودية والألم كمدخل لتشخيص نفسانية الشعوب المستكينة.
2- التدميرية
التدميرية هي الهرب من الشعور غير المحتمل بالعجز الذي يتولد عنه القلق وانجراف الحياة. ويبدو أن قدر التدمير الموجود في الأفراد متناسب مع القدر الذي يتقلص عنده توسع الحياة. إن انجراف الحياة كلها وانغلاق باب تلقائية النمو والتعبير عن قدرات الإنسان الحسية والانفعالية والعقلية؛ يجعل الطاقة الموجهة نحو الحياة تقوم بعملية تفكك وتتحول إلى طاقة موجهة نحو التدمير، أو بمعنى آخر إن الحياة لها طبيعتها الخاصة التي تميل نحو النمو وإلى أن يجري التعبير عنها وإلى أن تعاش، فإذا لم تتسع الآفاق لذلك استحالت هذه القوة المذخورة في الإنسان إلى التدميريه التي هي نتيجة الحياة غير المعاشة.
أما على صعيد التبرير، فإنه لا يوجد شيء لن يستخدم في التبرير العقلي للتدميرية، فقد يستخدم الحب والواجب والضمير والوطنية كأقنعة لتدمير الآخرين أو النفس.
3- تطابق الإنسان الآلي
وهي أن يتنازل الإنسان عن نفسه الفردية ويصبح آله متطابقة مع ملايين الآخرين من حوله. إنه يعتنق تماما نوع الشخصية المقدمة له من جانب النماذج الحضارية، وبالتالي يفقد الشعور بالعزلة والقلق. إن الهوة في هذه الحالة بين "الأنا" والعالم تختفي ويختفي معها الخوف بالوحدة والعجز، وهو بذلك يتشبه ببعض الحيوانات التي تلون جسمها على حسب البيئة المحيطة بها طلبا للحماية، وهو بذلك يدفع ثمنا غاليا لأنه بهذه الطريقة يكون قد فقد نفسه.
إن فرضية أن الطريقة "السوية" لقهر الوحدة هي أن يصبح الإنسان آلة تتناقض مع فكرة من أكبر الأفكار في حضارتنا: إنها تتناقض مع فكرة الحقوق والحريات. فمن المفترض في غالبيتنا أن يكونوا أفرادا أحرارا في التفكير والشعور والسلوك كما يشاؤون. إن كل فرد يؤمن بإخلاص أنه هو "هو" وأن أفكاره ومشاعره ورغباته خاصة به "هو"، وأي طريقة تجعل ملايين الأفراد نسخا متطابقة؛ يسيرون في إذعان وطاعة ينفذون ما يطلب منهم دون تردد، بل يسعون لإيجاد تبريرات حتى لو كانت تلك التبريرات عكس المنطق؛ هي ضد إنسانية الإنسان وجبلته الأولى.
أما إيتاي دو لابويسي؛ فيرجع في كتابه "العبودية الطوعية"؛ ذلك الهروب إلى عاملين، الأول هو القهر الذي يفرضه الطاغية على الرعية من خلال أعوانه "الطغاة الصغار"، والثاني هو الخديعة إما بالبهرج الكاذب أو بخديعة النفس. ثم يقول: لكن قلما يغويهم خداع الغير بقدر ما يخدعون أنفسهم، فنراهم تعودوا على تجرع سم العبودية دون أن يشعروا بمرارته. ثم يعقد مقارنة بين أولئك الذين نشأوا على المحافظة على حريتهم، فلا يقبلون بالتخلي عن قلامة ظفر منها، وبين أولئك الذين ترعرعوا في العبودية والاستبداد بقوله: هل تعتقد أنهم من طينه واحدة؟ أم أنك سوف ترى أنك غادرت مدينة يقطنها بشر إلى حظيرة عامرة بالبهائم؟؟